مثلما جاء قرار اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية مساء الثلاثاء الماضى (وقت كتابة هذه السطور) باستبعاد الفريق أحمد شفيق من خوض الانتخابات.. ليؤكد سريان أحكام قانون العزل السياسى، فقد جاء تصديق المشير طنطاوى على القانون صباح الاثنين الماضى ونشره فى الجريدة الرسمية فى نفس اليوم.. ليؤكد التزام المجلس العسكرى بتنفيذ القانون الذى أصدره مجلس الشعب المنتخب، وليؤكد أيضاً مصداقية المجلس بشأن حياده التام بين المرشحين وينفى دعمه لأى مرشح.وعندما يؤكد المشير طنطاوى عقب حضوره المناورة العسكرية (نصر 7) الأسبوع الماضى وقبل ساعات من تصديقه على قانون العزل.. على أنه لا دخل للقوات المسلحة بالسياسة وأنها ليست طرفاً فيها، وعندما يؤكد الفريق سامى عنان نائب رئيس المجلس العسكرى فى اليوم السابق أنه لا نية لتأجيل الانتخابات الرئاسية مع الالتزام بتسليم السلطة فى موعدها المحدد بنهاية شهر يونيو المقبل، فإن هذه التأكيدات التى تعزّز ما سبقها من تأكيدات مماثلة.. تأتى بمثابة انفراجة كبيرة للأزمة السياسية التى تشهدها مصر والتى كانت تثير الهواجس بشأن تمديد المرحلة الانتقالية ومن ثم تأجيل تسليم السلطة. وعندما يكرر المشير تأكيده على أن القوات المسلحة تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين للرئاسة وأنها لا تنحاز إلى طرف على حساب طرف آخر ولا تدعم أحداً من هؤلاء المرشحين، فإنه أزال الكثير من الغموض فى المشهد السياسى الراهن وتحديداً فيما يتعلق بالمرشح أحمد شفيق أحد قيادات المؤسسة العسكرية السابقين والذى تم استبعاده من الانتخابات لاحقاً. وعندما يقول المشير طنطاوى.. متحدثاً باسم القوات المسلحة ومجلسها الأعلى: لسنا ساسة ولن نسمح لأحد أن يجرنا إلى معترك السياسة أو إدخالنا طرفاً فيها، وأن مهمتنا الرئيسية هى الدفاع عن مصر وحماية شعبها وأمنها القومى، وعندما يقول.. متحدثاً عن نفسه: أنا لست رئيساً ولا أسعى لأن أكون رئيساً، وإنما أنا جندى بالقوات المسلحة، وكل هدفى وطموحى أن أصل بمصر إلى بر الأمان، فإنه بهذه الكلمات يوجه رسالة بالغة الأهمية وشديدة الوضوح للمصريين جميعاً تؤكد العزوف التام عن السلطة. أهمية رسالة المشير عبر تلك الكلمات أنها تعهُّد صريح وأخير بإنهاء المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة دون تباطؤ أو تأجيل، وعلى النحو الذى يبدد مخاوف بعض القوى السياسية من أن ثمة سيناريوهات لدى المجلس العسكرى لتمديد المرحلة بغرض البقاء فى السلطة. وبنفس القدر من الأهمية فقد جاءت تصريحات المشير من داخل سيناء بأن القوات المسلحة قادرة على كسر ذراع وقدم من يفكّر فى النيل من أمن مصر.. بمثابة رسالة أخرى بالغة القوة والحسم.. موجهة للداخل لطمأنة المصريين، وموجهة أيضاً للخارج ولإسرائيل على وجه التحديد، وهى رسالة لا تخفى دلالتها المهمة فى هذا التوقيت وخلال واحدة من أكبر المناورات العسكرية والتى أظهرت بجلاء القدرة العسكرية المصرية على الرد والردع. كانت تصريحات سابقة للمشير طنطاوى خلال اجتماعه قبل أسبوعين مع رؤساء الأحزاب السياسية بضرورة وضع الدستور الجديد قبل تسليم السلطة للرئيس المنتخب.. كانت قد أثارت المخاوف من تأجيل الانتخابات الرئاسية ومن ثم تأجيل نقل السلطة فى موعدها المحدد، باعتبار أن الوقت المتبقى غير كاف لكتابة الدستور، خاصة مع تعثّر إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية بعد أن أبطل القضاء تشكيلها الأول. غير أن تأكيدات المجلس العسكرى على لسان الفريق سامى عنان خلال اجتماعه الأحد الماضى مع فقهاء الدستور على أنه لا نية لتأجيل انتخابات الرئاسة.. أزالت تلك المخاوف نهائياً وهو الأمر الذى يعنى إجراءها قبل وضع الدستور والذى سيتأجل إلى ما بعد تسلم الرئيس القادم منصبه رسمياً بعد شهرين من اليوم. وإذا كان من الممكن القول بأنه تم احتواء جانب كبير من الأزمة السياسية التى تشهدها مصر منذ عدة أسابيع بالخروج من مأزق الانتخابات الرئاسية، فإنه تبقى مشكلة الخروج من مأزق الدستور والذى سيتم إصداره فى وجود الرئيس القادم، حيث اختلفت وتباينت آراء ووجهات نظر ومقترحات الخروج من المأزق خاصة فيما يتعلق بصلاحيات الرئيس والذى سيكون أول رئيس لمصر بعد الثورة ومع بداية الجمهورية الثانية. كان من بين المقترحات المطروحة للخروج من المأزق.. اقتراح.. هو الأسوأ بكل المقاييس.. لإحياء دستور (1971) الذى جرى تعطيله وإصدار المجلس العسكرى للإعلان الدستورى واعتباره دستوراً مؤقتاً لحين استقرار الأوضاع وكتابة الدستور الدائم الجديد. هذا الاقتراح الأسوأ.. كان منطقياً أن ينتهى اجتماع الفريق عنان وفقهاء الدستور برفضه رفضاً قاطعاً باعتبار أن دستور (71) أسقطته ثورة 25 يناير مع إسقاطها للنظام السابق وإسقاط شرعيته. وبينما لم يتوصل ذلك الاجتماع إلى اقتراح محدد ونهائى للخروج من مأزق الدستور، وإذ لا يزال الأمر مطروحاً للنقاش والحوار، فإن الاقتراح الذى طرحه الدكتور نور فرحات الفقيه الدستورى وأستاذ فلسفة القانون بجامعة الزقازيق خلال الاجتماع بإجراء تعديل للإعلان الدستورى والذى يعد دستوراً مؤقتاً يتضمن تحقيق التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وصلاحيات الرئيس والبرلمان.. هذا الاقتراح يبدو حلاً مؤقتاً مقبولاً ويطرح مخرجاً مناسباً من مأزق وضع الدستور بعد تسليم السلطة للرئيس المنتخب الجديد. وفى نفس الوقت فإن اقتراحاً آخر جاء من خارج الاجتماع يطرحه أحد أساتذة القانون الدستورى بجامعة الإسكندرية هو الدكتور محمد باهى ويتضمن قيام المجلس العسكرى بإصدار مرسوم بقانون لتحديد صلاحيات رئيس الجمهورية على أن يتم العمل بهذا المرسوم فى إطار الإعلان الدستورى، وهو اقتراح لا يقل أهمية ومعقولية عن سابقه. الحقيقة أن كلا الاقتراحين يطرحان حلاً مناسباً ومخرجاً مهماً من المأزق، ولا شك أن ثمة اقتراحات أخرى يمكن مناقشتها، لكن من الضرورى أن يتم التوافق وفى أسرع وقت على اقتراح محدد للخروج من مأزق تأخر وضع الدستور الدائم وبحيث لا يتسلم الرئيس الجديد مهام منصبه قبل تحديد صلاحياته واختصاصاته والعلاقة بينه وبين البرلمان. أما مأزق الدستور الأكبر والأصعب فهو استمرار تعثّر التوافق بين القوى السياسية حتى كتابة هذه السطور على معايير إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية وإجراءات وقواعد التصويت داخلها، مع ملاحظة إجماع القوى والأحزاب السياسية والنخب الفكرية والثقافية باستثناء جماعة الإخوان وحزبها.. الحرية والعدالة حتى الآن وكذلك إجماع فقهاء الدستور خلال اجتماعهم بالفريق عنان على تشكيل الجمعية بالكامل من خارج البرلمان. إن العملية السياسية لنقل السلطة وبدء الحياة الديمقراطية وتحقيق أهداف الثورة لن تكتمل بانتخاب الرئيس فقط ولكن أيضاً وبالضرورة بالخروج من مأزق تعثّر الدستور الذى يتعيّن أن يأتى معبراً تعبيراً أميناً عن كافة أطياف وفئات المجتمع. N