«وجود إرادة سياسية ومجتمعية رافضة للفساد ومناهضة له أمر ضرورى لإعادة التوازن المنشود إلى الاقتصاد المصرى» .. هذا ما أكده مؤتمر «نحو اقتصاد أكثر شفافية»، الذى عقدته جامعة القاهرة بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والمالية والبرنامج الإنمائى للأمم المتحدة، وحذر خبراء الاقتصاد والمالية من التداعيات السلبية الناجمة عن الفساد، لأن تفشى الفساد يفاقم تكاليف الاستثمار، وبالتالى يهدد بدوره خطط التنمية بالدول النامية.وأكدت د. هبة نصار نائب رئيس جامعة القاهرة أنه بدون زيادة الأجور، ستبقى مشكلة الفساد موجودة، مهما بذلت الحكومة من جهود على صعيد المكافحة سواء بوضع المزيد من التشريعات أو بتشديد العقوبات المنصوص عليها فى القوانين، لافتة إلى أن حرص أعضاء هيئات التدريس على تحقيق الجودة فى التعليم أمر بالغ الأهمية لكونه ضمانة لمكافحة الفساد فى العملية التعليمية. وقالت د. نصار إن ممارسات الفساد المالى فى المنظومة التعليمية التى منها الجامعات بدأت بالفساد فى الكتب والمناهج ووصلت إلى الملازم التى انتشرت بشكل غير مسبوق مما ترتب عليها اهدار الحقوق وفساد العملية التعليمية برمتها، فضلا عن أن هذا الفساد يتضح جليا أيضا فى انتشار الدروس الخصوصية التى تنفق الأسرة عليها 25% من دخلها. منظومة التعليم وشددت على أنه من الأمور الغريبة فى منظومة التعليم المصرية التى يجب أن تتوقف هى أن إقامة الأبنية التعليمية أمر يحدد بقرار سياسى وليس وفقا لقرار الاحتياجات، فقرار تخصيص ميزانية للأبنية التعليمية يتم وفقا لقرار النظام أو نائب البرلمان، مؤكدة أنه لا توجد إدارة للأزمة فى مصر بشكل فعال، فدائما تظهر الأزمة وتتصاعد ولا يتم التدخل إلا بعد «خراب مالطة»، وأنه فى ظل هذا الوضع يصعب بناء اقتصاد جاد مستقر ينمو بمعدلات مرتفعة. لكن د. هالة السعيد عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ترى أنه هناك مجموعة من المشكلات تتزامن فى ظهورها بتواجد الفساد فى أى اقتصاد، وأول هذه المشكلات، عدم استقرار مناخ الاستثمار، فضلا عن زيادة تكلفته بشكل يقلل من فرصة الحصول على المزيد من الاستثمارات سواء المحلية أو الأجنبية، ثم تأتى المشكلة الثانية، وتتمثل فى انخفاض جودة الخدمات العامة، لأنه ما دام هناك فساد فإن الترهل فى الجهاز الإدارى يكون سيد الموقف، ومن ثم فإن تراجع جودة الخدمات تكون النتيجة الحتمية. وأشارت إلى أنه من المشكلات التى يعانيها الاقتصاد فى ظل وجود معدلات مرتفعة من الفساد، الحد من زيادة العوائد الضريبية، وعدم الثقة فى منظومة القيم، وفقدان مفهوم القيمة تجاه العمل، مؤكدة أن الحديث عن الفساد لم يعد مقصورا على النخبة أو المثقفين، ولكنه حديث رجل الشارع، الذى يدلل على شيوع الفساد فى المجتمع المصرى. وقالت د. السعيد إن تراجع معدلات الشفافية فى الاقتصاد يقلل من قدرته التنافسية فيما يتعلق بجذب الاستثمارات، وربما يفسر ذلك تراجع معدلات الاستثمار فى الاقتصاد المصرى، فإن ترتيب مصر على مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية فى العام 2011 هو 112 من بين 180 دولة، وأنه للأسف حصلت مصر على 2.9 درجة على هذا المؤشر فى العام 2011 مقابل 3.1 درجات، مما يعنى تراجع الشفافية فى مصر. وأضافت أنه فى ظل هذه الأوضاع لابد من الإسراع فى دراسة تجارب البلدان المختلفة فى مكافحة الفساد وتحقيق أكبر قدر ممكن من الشفافية فى الاقتصاد وذلك للاستفادة من هذه التجارب لما يمكن أن يترتب على تحقيق معدلات أعلى من الشفافية من نتائج إيجابية للغاية، موضحة أن أن تجربة دولة سنغافورة جديرة بالدراسة، كون هذه الدولة استطاعت أن تتبوأ المرتبة الخامسة على مستوى العالم فى الشفافية العام الأخير، بعد أن كانت فى مراتب متأخرة منذ سنوات قليلة. وخلصت د. السعيد إلى أن انتشار الفساد فى المجتمع يؤثر سلبا على العدالة فى التوزيع لصالح الفئات الأكثر قوة على حساب الفئات الفقيرة، لذلك فإن الإسراع فى إجراءات المواجهة ضرورة، مشيرة إلى أنه على الرغم من وجود العديد من الهيئات والجهات الرقابية فى مصر، إلا أنه لا يوجد تحديد واضح لاختصاصاتها، وبالتالى من الضرورى العمل على مراجعة القوانين واللوائح وتقوية الأدوار الرقابية وإعداد كوادر بشرية مؤهلة لمكافحة الفساد، وتفعيل مشاركة المجتمع المدنى وقطاع الأعمال فى نشر التوعية المجتمعية وتكوين رقابة شعبية قادرة على مواجهة الفساد. تكافؤ الفرص فيما أكدت د. منال متولى مدير مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والمالية أن اتباع تقاليد الحكم الرشيد فى الاقتصاد أصبح حلما ينتظر كل المصريين إدراكه لما يترتب على ذلك من تجفيف لمنابع الفساد فى كل مؤسسات الدولة، لافتة إلى أن انتشار معدلات الفساد يؤثر على مناخ الأعمال ويحرم الشركات من تكافؤ الفرص، خاصة أن الدراسات أثبتت أن ارتفاع معدل الفساد بنحو نقطة مئوية واحدة يقلص معدلات الاستثمار بنحو 11%. وشددت أن تكلفة الفساد فى أفريقيا تبتلع نحو 25% من الناتج الإجمالى، وأن هناك علاقة عكسية بين وجود الفساد وقدرة الاقتصاد على جذب الاستثمارات، لأن الفساد يترتب عليه زيادة معدلات تكلفة الاستثمار بنحو 20% مقارنة بالمجتمعات الأقل فسادا، موضحة أنه لكى تؤتى جهود مكافحة الفساد آثارا إيجابية فلابد أن تتكاتف جميع المؤسسات لمواجهة هذه المشكلة، وبالتالى فإنه ما دام القطاع الخاص يتعامل مع الفساد على أنه واقع قائم ومستمر فإن هذه الجهود ستنتهى إلى الفشل لأن القطاع الخاص هو من يقدم الرشوة وبالتالى فإنه طرف أصيل فى معظم الممارسات الفاسدة، ومن ثم فإنه قطاع الشركات هو الجانى والضحية فى آن واحد. وطالبت د. متولى بضرورة البدء فى إجراءات مكافحة الفساد بتعزيز منظومة الحكم الرشيد فى مؤسسة القضاء، لكونها الوصية على تنفيذ القوانين بكل نزاهة وشفافية، وبالتالى فإنه بدون هذه الشفافية فى إدارة منظومة القضاء فإنه لا أمل فى القضاء على الفساد، فضلا عن أنه من الأهمية الحرص على تنفيذ القانون بشفافية تامة لأنه لا قيمة لقانون لا يتم تطبيقه، ووضع مجموعة قوية من الأدوات الوقائية، وأخيرا، توعية الجماهير عبر مؤسسات التنشئة بسبل مكافحة الفساد لما له من مخاطر على الاقتصاد. إرادة سياسية د. غادة موسى أمين لجنة الشفافية ومكافحة الفساد بوزارة التنمية الإدارية كشفت أن مصر قد تبنت استراتيجية لمواجهة الفساد فى العام 2002، إلا أنها ركزت فى هذه الاستراتيجية على الفساد الإدارى، وأن السعى فى تنفيذ بنود هذه الاستراتيجية لم ينجح فى التخفيف من وطأة الفساد نتيجة غياب الإرادة السياسية فى ذلك الوقت، مشددة على أنه من الضرورى الإسراع فى وضع استراتيجية جديدة تأخذ فى اعتبارها مضمون اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد التى دخلت حيز التنفيذ فى العام 2005. وخلصت إلى أن صياغة هذه الاستراتيجية أمر لن يكفى بمفرده لمكافحة الفساد أو تحقيق قدر أعلى من الشفافية فى الاقتصاد بل يحتاج الأمر إلى هذه الاستراتيجية التى يتم تنفيذها بإرادة سياسية، تدرك جيدا خطورة استمرار الأوضاع على ما هى عليه الآن من فساد وغياب للشفافية فى الإدارة والاقتصاد، مؤكدة أن هذه الاستراتيجية مطالبة بأن تستهدف تحقيق حوكمة القطاعات العامة، وإقرار مبدأ الشفافية وتعزيزه داخل مؤسسات الدولة، وتحسين أوضاع المواطنين الأسرية والوظيفية والمعيشية، وتوعية الجمهور وتعزيز السلوك الأخلاقى. أما السفير أيمن الجمال منسق مكافحة الفساد فى وزارة الخارجية فأكد أن صعوبة مكافحة الفساد تكمن فى أن المجتمع المدنى فى مصر يتعامل مع منظومة مكافحة الفساد من إطار المنفعة الخاصة والمصالح الشخصية وليس المصلحة العامة، موضحا أن مواجهة الفساد الكبير يحتاج إلى التدخل من الجهات التنفيذية كالنيابة العامة ونيابة الأموال، لكن الفساد الصغير يعيد المجتمع تسميته بمسميات أخرى أقل فسادا مثل الإكرامية أو الشاى وغير ذلك. وقال الجمال إن نمط حياة المصريين الآن أصبح يتكيف مع بعض ممارسات الفساد، وهذه مشكلة لابد من التعرض لها، بمنطق أنه لا يمكن التهاون مع الفساد، وأنه إذا لم يتم التحرك الجاد لمواجهة الفساد ستتأثر الدولة سلبا، خاصة أن تكلفة الاستثمار فى مصر أصبحت مرتفعة جدا بسبب الفساد، وبالتالى أصبح السوق المصرى غير تنافسى يعانى من سيادة الاحتكار وما يلازمه من ممارسات اقتصادية فاسدة.