كان «الأهرام» نافذة هامة للثقافة الموسيقية، وكنت أحرص على قراءة كل ما يكتبه السندباد د. حسين فوزى فى التحليل للموسيقى العالمية، لم يكن رئيس التحرير يعترض بحجة أنها صحيفة عامة يشتريها المثقف، ويحرص على قراءتها الميكانيكى ويجلس البواب أمام من يقرأ له صفحاتها، ولما رحل السندباد واصل المهمة الفنان سليمان جميل، فلما رحل اختفت مادة التحليل الموسيقى والنقد أيضاً، وكذلك كان كمال النجمى يفعل فى مجلات دار الهلال ومن قبله الناقد محمد على حماد الذى كان يكتب عن الموسيقى فى عدة صحف، كما يفعل ذلك فرج العنترى والدكتور زين نصار. لم تعد الصحف السيارة يهمها فى الموسيقى إلا أخبار المغنين والمغنيات ومعاركهم الشخصية وملابسهم الخاصة، اختفت الثقافة الموسيقية فى صحفنا، وانزوت فى بعض المحطات الإذاعية الثقافية، وإذا سألت شابا عن الموسيقى فهو لا يعرف الفرق بين موتسارت وشعبان عبد الرحيم، يقول إنه يحب «أم كلثوم» فى ألحان «رياض القصبجى»، خاصة أغنية «بين الأطلال» عندما كان فى مصر ثلاث جامعات فقط هى القاهرة وعين شمس والإسكندرية وكان الشباب يحرص على أن يكون ملما بالموسيقى كفن وعلم، وكان يجد من يقدم له ذلك فى مدرسته وجامعته وصحيفته، الآن فى مصر عشرات الجامعات الحكومية والخاصة وإذا سألت أحد خريجيها ماذا تعرف عن عبد الوهاب، يرد بثقة: هو ملحن «هان الود»! هكذا تم اختصار تاريخ موسيقار الأجيال وأبو الأغنية العربية فى تلحين أغنية عادية لحنها من بين 267 عملا بين قصيدة وأوبريت وأغنية طويلة أو قصيرة..لا يوجد بينهما أغنية واحدة لا توصف بأنها تحفة فنية متطورة، كما لحن مثل هذا العدد لغيره.. أما أبو الموسيقى العربية سيد درويش فقد استقر فى ثقافة كثير من الشباب بأنه ملحن أغنية «زورونى كل سنة مرة» مع أنه رائد للتنوير بالموسيقى ومبدع مسرحنا الغنائى الناضج الذى يعد النموذج المثالى فى التلحين للمسرح، بالإضافة إلى إشهار الأغنية العربية كحد السيف فى وجه الحاكم الظالم والمحتل المفترى وفى السلام هى وردة رقيقة تنعش القلوب وتثرى الوجدان. ولا يمكن لتاريخ الأغنية المصرية الحديثة أن يتجاهل إبداعات الشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجى ورياض السنباطى وفريد الأطرش ومحمد فوزى وبليغ حمدى والموجى والطويل وغيرهم، أما موتسارت وليست وبتهوفن وشوبان وفردى وهايدن وشوبرت وباخ (الأب والابن) ومندلسون وجورج بيزيه وفاجنر وكورساكوف وغيرهم فيسمع الشباب أسماءهم فيتصورون أنها أسماء لأبطال «بلاى ستيشن» أو هم نجوم كرة القدم فى نوادى مانشيستر أو ريال مدريد أو برشلونة!. بدأت ثقافتنا الموسيقية عندما تكونت جمعيات الجرامفون فى مصر فى الثلاثينيات من القرن العشرين بعد انتشار هذا الجهاز، وكان كوسيلة لتشغيل أسطوانات الأغانى وقد ظهر فى بلادنا فى العقد الأول من القرن بعد ظهوره فى الغرب بشهور قليلة، وكان أساتذة الجامعات المصرية (القاهرة والإسكندرية وعين شمس) يقومون بشرح المؤلفات الموسيقية العالمية وتاريخ مؤلفيها لأعضاء الفرق الموسيقية الجامعية، ولما بدأت الإذاعة المصرية بثها الحكومى 1934 قدم أحمد سعد الدين أول حديث موسيقى بعد أربعة أعوام من هذا التاريخ، وكان موضوع الحديث (فيردى وأوبرا عايدة)، ثم أنشأت دار الكتب المصرية «الكتبخانة» مكتبة الفن عام 1949 واحتوت أسطوانات وأجهزة تسجيل موسيقية، وكانت المكتبة تقيم الندوات وحلقات الاستماع والشرح والتحليل للموسيقات العالمية، فلم يحدث حتى هذا التاريخ أى ظهور للموسيقى العربية على ساحة التذوق رغم توصية أول مؤتمر للموسيقى العربية الذى عقد فى القاهرة عام 1932 بضرورة الاهتمام بالتذوق الموسيقى العربى، ومع ذلك فعندما قررت وزارة التعليم (المعارف سابقا) ضم مادة الموسيقى إلى برامج التعليم فى المدارس انحازت للموسيقى العالمية، ثم الإذاعة المصرية بنفس المنهج فى زمن الاحتلال الانجليزى والحاكم العثمانلى كانت الثقافة الموسيقية محل اهتمام المصريين، فلما عادت مصر لأولادها اضمحلت فأصبحت أم كلثوم مطربة «بين الأطلال»، وعبد الوهاب ملحن «هان الود»!