عندما تم الإيقاع بأوائل المتهمين فى عملية الجاسوسية الكبرى، التى عرفت باسم (عملية سوزانا)، أو (فضيحة لافون)، كان من أهم الأدلة، التى تم العثور عليها، فى منزل (فيليب ناتاسون)، أحد المتهمين، شرائح ميكروفيلم دقيقة، لم يكن من الممكن توافرها، فى ذلك الحين، إلا لأجهزة المخابرات، ولقد تبيًَّن فيما بعد، أن تلك الشرائح قد دخلت إلى (مصر) عن طريق (باريس)، وبوسيلة كانت آنذاك مبتكرة للغاية؛ إذ تم لصقها خلف طوابع البريد، فى رسائل عادية، ولعناوين مختلفة ... وعندما تم تكبير تلك الشرائح، وجد الخبراء عليها سبع وثائق، عن تركيب واستعمال بعض القنابل البدائية الحارقة، وشفرة للاتصال اللاسلكى، وعدد من الخرائط للأهداف المراد توجيه الضربات إليها، وأشياء أخرى، تنتمى كلها إلى منظومة التجسًَّس ... ولقد قادت التحريات والاستجوابات إلى الإيقاع بعدة متهمين آخرين، مثل (صمويل باخور)، وهو مهندس يهودى، فى الرابعة والعشرين من عمره، أسس خلية الوحدة فى (الإسكندرية)، وتولًَّى زعامتها مؤقتاً، قبل أن يحتل (فيكتور ليفى) منصب الزعامة، لتفوقه خبرة وتدريباً، وعبر اعترافات (صمويل)، تم إلقاء القبض على (ماير موحاس)، اليهودى البولندى الأصل، والذى يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً، ويعمل مندوباً للمبيعات، والذى أرشد فى اعترافاته إلى (جون دارلنج)، أو (إبراهام دار)، قائد الشبكة، ومؤسس فرعيها، فى (القاهرة) و(الإسكندرية)، وأحد أخطر رجال المخابرات الإسرائيلية، وأكثرهم مهارة، كما أرشد عن (موسى ليتو)، الجرًَّاح ومسئول فرع (القاهرة)، والذى تم القبض عليه، ليرشد بدوره عن (فيكتورين نينو)، الشهير باسم (مارسيل نينو)، و(ماكس بينت)، و(إيلى جاكوب)، و(يوسف زعفران)، و(سيزار يوسف كوهين)، و(إيلى كوهين)، الذى لم يثبت تورًَّطه فى (عملية سوزانا)، وتم الإفراج عنه فيما بعد، وإن ساعد ملفه فى هذه العملية، على كشف أمره فيما بعد، عندما تم زرعه فى (سوريا)، تحت اسم (كامل أمين ثابت)، وألقى القبض عليه هناك، قبل أن يفوز بمنصب نائب وزير الدفاع مباشرة ... ولقد أعقب سقوط الشبكة فى (مصر) وما صحب ذلك من دوى إعلامى عالمى، أن أصدر (موشى ديان)، رئيس أركان الجيش الإسرائيلى فى ذلك الحين، قراراً بعزل (موردخاى بن تسور)، من قيادة الوحدة (131)، وتعيين (يوسى هارئيل)، بدلاً منه، ومن الواضح أن اختياره لم يكن موفقاً، إذ أن (يوسى هارئيل) قد اتخذ قراراً بالغ الغرابة والعجب، فى تاريخ المخابرات كله؛ إذ خشى تحمًَّل المسئولية، فأصدر قراره بإيقاف جميع عمليات التجسسًٍَّ، فى كل الدول العربية، واستدعاء جميع العملاء فيها، حتى لا يواجه مصيراً مشابهاً لمصير سلفه ... وهو إجراء لا يمكن ان يتخذه رجل مخابرات حقيقى، فى فترة شديدة السخونة كهذه... وعلى جانب آخر فقد تمت محاكمة أفراد شبكة التجسًَّس، التى استهدفت ضرب الجبهة الداخلية، وإفساد علاقات (مصر) الدولية، فى الحادى عشر من ديسمبر عام 1954م، وصدر الحكم على (موسى ليتو مرزوق)، و(صمويل بخور عازرا)، بالإعدام شنقاً، والأشغال الشاقة المؤبدة، لكل من (فيكتور ليفى)، و(فيليب هرمان ناتاسون)، والأشغال الشاقة لخمسة عشر عاماً، لكل من (فيكتورين نينو)، و(روبير نسيم داسا)، والأشغال الشاقة لسبع سنوات، لكل من (ماير يوسف زعفران)، و(ماير صمويل ميوحاس) ومصادرة أجهزة اللاسلكى والأموال المضبوطة، وسيارة (ماكس بينيت)، والذى لم يرد اسمه فى منطوق الحكم؛ نظراً لانتحاره فى السجن ... أما (سيزار يوسف كوهين)، و(إيلى جاكوب)، فقد تمت تبرئتهما، ليخرجا بعدها من (مصر)، ويعاود (إيلى) نشاطه فى المخابرات الإسرائيلية، ثم يسقط فى (سوريا) بعدها بسنوات، وهو ينتحل شخصية (كامل أمين ثابت) ... ولقد أصيب الشارع الإسرائيلى بحالة من الغضب والغليان، عقب صدور الاحكام، وبذلت (إسرائيل) جهوداً مضنية؛ لإقناع (مصر) بالعدول عن الاحكام؛ لصغر سن المتهمين، وتدخل الرئيس الأمريكى – حينذاك – (أيزنهاور)، وأرسل رسالة شخصية إلى (جمال عبد الناصر)، يناشده الإفراج عن المتهمين لدوافع إنسانية، وكذلك فعل (أنتونى إيدن)، و(وينستون تشرشل)، وعدد من كبار المسئولين الفرنسيين، إلا أن الرئيس (جمال) رفض كل هذا، وأصًَّر على المضى فى تنفيذ الأحكام، باعتبار أن مصلحة (مصر) تفوق كل اعتبار ... وبالفعل، وفى 31 يناير 1955م، تم تنفيذ حكم الأعدام فى (موسى ليتو مرزوق)، و (صمويل بخور عزرا)، حيث تم دفن الأوًَّل فى مقابر اليهود بالبساتين، والثانى فى مقابر اليهود بالإسكندرية ... وعم الحزن (إسرائيل) كلها، حيث نكست أعلامها، ووقف أعضاء الكنيست حداداً، وخرجت كل الصحف الإسرائيلية بمانشيتات سوداء، وتم إطلاق اسم الجاسوسين على أهم شوارع (بئر سبع) ... ولكن الفضيحة لم تنته؛ وقد تم التحقيق مع (موشى شاريت)، رئيس الوزراء، والذى لم يكن لديه أى علم بالعملية، وكذلك التحقيق مع وزير الدفاع (بنحاس لافون)، الذى أنكر معرفته بأية عملية، تحمل اسم (سوزانا)، إلى أنه اضطر بعدها للاستقالة، وعاد (بن جوريون) إلى منصب وزير الدفاع، فأصدر قراره بعزل (بنيامين جيلبى)، مدير المخابرات العسكرية (أمان)، وتعيين (يهو شفاط هركابى) بدلاً منه ... و و(هركابى) هذا، والذى كان نائباً لمدير المخابرات العسكرية، هو صاحب نظرية الردع العسكرى، التى تم تطبيقها فى السياسة العسكرية الإسرائيلية فيما بعد ... أما باقى المتهمين، فقد تم عقد صفقة تبادل أسرى، عقب نكسة يونيو 1967م، وتم الإفراج عنهم فى بدايات عام 1968م، ليعودوا إلى (إسرائيل)، وتم استقبالهم فيها استقبال الأبطال، واستقبلتهم رئيسة الوزراء- آنذاك- (جولدا مائير)، وصدر قرار بتعيينهم فى الجيش الإسرائيلى؛ كوسيلة لمنعهم من ذكر تفاصيل القضية، وحضرت (جولدا مائير) مع (موشى ديان)، وزير الدفاع الإسرائيلى –آنذاك- حفل زفاف (مارسيل نينو)، وإن لم يمنع هذا ظهور هذه الأخيرة، مع (روبير داسا)، و(يوسف زعفران)، على شاشة التليفزيون الإسرائيلى، بعد عشرين عاماً من العملية، فى يوليو 1974م، ليهاجموا الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة؛ لأنها لم تبذل الجهد الكافى إطلاق سراحهم قبل هذا، وأنه لولا عملية تبادل الأسرى، لما عادوا إلى (إسرائيل) ... وهذا يقودنا إلى الحديث عن لعبة تبادل الأسرى وصفقات تبادل الجواسيس، باعتبار أنه حتى هذا ... فن آخر، من فنون اللعبة، التى لا نهاية لها ... لعبة الجاسوسية.