كتب : جهاد الرملى ... كمن انعزل عن العالم.. وجدت نفسها وحيدة فى ذلك الشارع الخارج من الميدان.. حسام ابنها يعمل مع زوجته فى السعودية ولا ينزل فى إجازة إلا نادرا.. ابنتها غادة المتزوجة من رجل الأعمال الثرى لم تعد تراها هى الأخرى إلا لماما.. اشترى الرجل جمالها الفنان بالكثير، أما هى فدفعت ثمن عيشتها المترفة معه بالطاعة التامة لأوامره ومنها تقليل زياراتها لأمها لأقصى حد.. عوضا عن رؤية ابنها وابنتها قضت أيامها تجتر ذكرياتها مع زوجها المستشهد فى حرب أكتوبر وابنها الأكبر أحمد الذى تركت وفاته هو الآخر وجعا فى قلبها لا يزول.. بابها المغلق عليها لا يطرقه بين الحين والآخر إلا بواب العمارة الذى تستدعيه لشراء بعض احتياجاتها المنزلية، أيامها تمر ثقيلة رتيبة محملة بمشكلات تافهة، وإن كانت مرهقة، منها مشكلتها مع جارتها التى تسكن فوقها والتى تصر على ألا تعصر غسيلها جيداً قبل نشره فتغرق بلكونتها بالماء المتساقط. وككل ليلة جلست على الكنبة العتيقة فى الصالة تعبث برموت كنترول ذلك الجهاز الوحيد الذى يؤنسها، نشرات الأخبار تعبرها بسرعة بعد سماع أول خبر بحثا عن تسلية ما، فليس لها فى السياسة، رغم ذلك فقد أخذت تسمع فى الأيام الأخيرة تعليقات فى بعض البرامج تشكك فى نزاهة الانتخابات، وحديث آخر عن خطط الحكومة فى القضاء على البطالة وتحسين التعليم و.. و.. و.. الحديث عن البطالة تحديدا يحرك فيها فى كل مرة ألمها الدفين وحسرتها على ابنها المتوفى.. المسكين كان قد سافر ليغسل الأطباق فى بلاد الغرب بعد أن سدت أمامه سبل العمل فى بلده، رغم تخرجه من خمس سنوات، وفى الغربة مرض ومات، حيث لم يكن بجانبه من يقوم به ولم يكن معه مال يكفى للعلاج.. ابنها الأصغر حسام حاولت إثناءه عن السفر هو الآخر دون فائدة، فبمجرد حصوله على عقد عمل بالسعودية طلب إجازة بدون مرتب من عمله وسافر وحجته فى الرد على أمه كانت دامغة إذ كيف سيدبر مصاريف بيته بمرتبه الضئيل بعد أن أصبح أبا لولدين إن لم يسافر؟ فى جولاتها فى السوق سمعت حديثا عن اعتصامات وإضرابات وأيضا تعليقات عن ثورة تونس.. بعد العودة جرت مشاجرة جديدة مع جارتها وباتت ليلتها منهكة الأعصاب، وفى تلك الليلة رأت فى المنام زوجها الشهيد قادما إليها لابسا بدلة ميدان القتال وعليها بقع من دماء وهو يستند على كتف ابنها المتوفى فى الغربة، نظر الابن فى عينيها ثم نطق بعبارة واحدة واختفى: «خلى بالك من زملائى».. فى الصباح التالى فاجأها ضجيج التجمع الكبير فى الميدان، خرجت إلى البلكونة تتابع الحدث مع الخارجين رأت شبانا فى عشرينيات العمر يصرخون مطالبين بالعدل والكرامة والأمن المركزى يحاول أن يصد زحفهم. فى اليوم التالى رأت أعدادهم تتزايد ثم تتعاظم، وفى الرابع رأت بأم أعينها بعض الشباب يتساقطون مصابين تحت ضربات هراوات الشرطة، تذكرت هيئة زوجها الذى زارها فى المنام وعلى ملابسه بقع الدم، أحست بشىء من الاختناق عندما وصلت إلى بلكونتها رائحة القنابل المسيلة للدموع على أن شيئا جعلها تتسمر فى مكانها تتابع المشهد. جاء العصر ووجدت قدماها تسوقها للنزول للشارع لترى- وياهول ما رأت- سيارات شرطة تدهس شابين، و سمعت فى ركن آخر من الميدان طلقات نارية.. عند المغرب انفلت العيار تماما وانطلقت جحافل شيطانية تنهب وتخرب كل شىء وتحرق بعض المنشآت ليلتها لم تنم وأخذت تقلب قنوات التليفزيون بحثا عن خبر جديد يفسر لها ما يحدث.. وانتابها شعور غريب بأنها مهددة بخطر غير عادى يختلف عما خبرته طوال عمرها الذى شارف على الستين.. خطر داهم ليس عليها وحدها أو على الشارع الذى تسكن فيه أو حتى قلب مدينتها التى عاشت فيها.. أن الوطن كله يحترق.. فجأة زال عنها شعورها بالوحدة والعزلة، هى الآن جزء من الكل المحترق. وفى الصباح شعرت بأن روحها أخذت تدلف من بوابة عالمها الضيق البائس إلى عالم شديد الرحابة، عالم يستنفر كل قواها المختزنة، وإذا بقدميها تسوقاها بنشاط لم تعرفه من مدة لتحتل مكانها وسط الجمع المليونى.. شباب وشيوخ وحتى أطفال ونساء من دياناتها وأخريات من غيرها، محجبات وغير محجبات، حتى جارتها التى تشاجرت معها منذ أيام رأتها! نادت عليها الجارة: تعالى هنا جنبى يا أم أحمد.. حاسبى تقعى، هاتى إيدك.. كان الكل يصرخ ويصرخ.. لحظتها طفرت إلى ذهنها فجأة صورة ابنها المتوفى فى الغربة ونظرته لها فى المنام وهو يوصيها بزملائه، وبدون أن تشعر أو تعرف كيف.. وجدت نفسها تصرخ مع الصارخين المطالبين بسقوط النظام. تذكرت مرة أخرى ابنها المتوفى أحمد، كان الولد عندما يأتى بأصدقائه إلى المنزل ليذاكروا معه تعد لهم أكواب الشاى وأكواب الجنزبيل بالحليب الذى برعت فى إعداده، وبسرعة وجدت نفسها تعود إلى المنزل لتجهز شراب الجنزبيل الساخن المفيد للحنجرة والطارد للسعال كى تحمله فى تُرمس ومعه الأكواب داخل شنطة إلى الميدان. واصلت أم أحمد أداء مهمتها حتى ألفتها مجموعة من الشباب تجمعوا فى ركن من الميدان وألفتهم وهى تمر عليهم لثالث ليلة وتسأل كالمعتاد: «مين ما أخدش كوباية الجنزبيل»؟. وفى الليلة الموعودة كان الهتاف الهادر فى الميدان والواصل إلى السماء فى عناد يصر على رحيل الرئيس، هتفت مع الهاتفين بأعلى صوتها حتى سقطت من التعب مغشيا عليها.. فتحت عينيها فى ظلام الميدان على أيدى ترش وجهها بالماء والنشادر، بينما صيحات فرح لم تسمعها من قبل ترج الميدان رجال وشباب كالورد يحيطون بها وهى ممددة على الأرض، ملامحهم بدت وقتها قريبة الشبه من ملامح ابنها المتوفى وملامح والده الشهيد، حتى الفتيات وجدت فيهن ملامح من ابنتها غادة التى لم ترها من مدة.. لم تعد تعيش وحدها، توحدت مع الكل، الكل الآن أبناؤها وثمة مشاعر مبهمة ولكنها آسرة ومبهجة تغشاها وهى تنظر فى وجوههم المبتسمة والتى تتهلل بالبشر.. وتماهت مشاعرها تماما مع مشاعرهم فى لحظة فريدة وهى ترى أيديهم تمتد إليها لترفعها من على الأرض وتسمع أصواتهم تصيح فيها فى فرح غامر: «فوقى يا حاجة.. اصحى يا أمى.. الريس خلاص اتنح