لن تنمحى هذه الواقعة من ذاكرتى، ولن تغيب عن عينى على الرغم من أنها حدثت فى بداية التسعينات من القرن الماضى.. حيث كنت صديقا لرئيس محكمة عابدين - رحمة الله عليه - ودعانى لحضور جلسة النطق بالحكم فى إحدى القضايا المعروضة عليه.. وفى صباح اليوم المحدد اتخذت مكانى فى القاعة وشاهدت المتهم فى القفص فى حالة انتظار وترقب، ثم بدأت الجلسة بخطبة طويلة من القاضى حول ضرورة احترام الشريعة وعدم مخالفتها وانتهى بالحكم على المتهم بجلده ثمانين جلدة لضبطه مخمورا فى أحد شوارع عابدين، ونظرت إلى المتهم فوجدته يتصبب عرقا وعلى وشك الإغماء من هول المفاجأة، كما لاحظت وجوما على وجه ممثل النيابة ومحامى المتهم وجميع من كانوا بالقاعة.... وتابعت الأحداث.. حيث سارع المتهم بالتظلم للمحامى العام للنيابة الذى أوقف تنفيذ الحكم، كما حققت وزارة العدل مع القاضى ونقلته إلى عمل إدارى حتى توفاه الله. وقد أثارت القضية جدلا وقتها.. هل يجوز للقاضى أن يحكم بفهمه الخاص لأحكام الشريعة استنادا إلى نص المادة الثانية من الدستور.. والتى كانت تقول إن الشريعة الإسلامية هى المصدر الأساسى للتشريع، أم أنه ملزم بتطبيق القوانين السارية والتى تنطبق نصوصها على الواقعة المعروضة أمامه.. وهو فى تلك الحالة قانون العقوبات؟! وبالطبع حسم الأمر وقتها بإحالة القاضى إلى عمل إدارى - كما أشرت من قبل - واستمر قضاة المحاكم فى الالتزام بتطبيق القوانين الوضعية الصادرة على السلطات التشريعية فى البلاد. وقد تذكرت تلك الواقعة مؤخراً عندما بدأ تسريب أخبار عن تكوين «جماعة» للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. والتى رفضها المجتمع بكافة فئاته وطوائفه، حيث لا يجوز أن يترك للأفراد تفسير القوانين وتطبيقها.. وإنما هناك جهات مختصة بتطبيق القانون هى المحاكم.. وأخرى مسئولة عن التنفيذ وهى النيابة العامة وجهاز الشرطة. وإذا كانت فكرة الجماعة قد وئدت فى مهدها، فقد تجددت «المعركة» مرة أخرى بمحاولات بعض ضباط الشرطة إطلاق لحاههم تشبها برسول الله صلى الله عليه وسلم.. والذين لم يكتفوا بذلك وإنما دعوا أفراد الجيش والقضاة للاقتداء بهم وإطلاق لحاههم.. حيث لا يوجد قانون يمنع ذلك. ولكن وزير الداخلية أصر على تطبيق القانون على كل من يفعل ذلك من ضباطه.. مطالبا إياهم بضرورة الالتزام باللوائح والكتب الدورية التى تطالبهم بالانضباط وحُسن المظهر والالتزام بالزى والشكل الموحد للعاملين بالجهاز الأمنى. ولكن يبدو أن الضباط مصرون على الاستمرار فيما بدأوه.. وقد ساندهم أحد أعضاء مجلس الشعب بتقديم طلب إحاطة بذات المعنى.. كيف يمنع الوزير ضباطه من إطلاق لحاههم؟! وفى رأيى أن الأمر جد خطير.. ومسألة إطلاق اللحية ليست إلا مقدمة لأمور أخرى سوف نفاجأ بها تباعا.. فأولا: تعلمنا من قرآننا الكريم وسنة رسوله المصطفى أن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه اللسان والفعل، وما وقر فى القلب يعلمه الله سبحانه وتعالى.. حيث يعلم السر وما أخفى.. ولكن الناس لها القول والفعل.. والمؤمن الحق لا يحتاج لأن يعلن عن إيمانه بشكل أو زى معين فهذا اختزال للإيمان.. وأجدادنا وآباؤنا كانوا أكثر إيمانا منا وتمسكا بدينهم الحنيف ولم يطلقوا لحاههم أو يرتدوا الزى الأفغانى (الجلباب القصير والبنطلون الأبيض) وإنما كانوا يمارسون حياتهم بشكل عادى جدا يعاملون الناس بالحسنى ويصدقون القول ولا يخالفون شرع الله.. فالدين المعاملة.. ثانيا: من حق كل جهة أو مؤسسة أن تختار زيا معينا (يونى فورم) للعاملين فيها وأن تلزمهم بارتدائه دون غيره وإلا عليهم تقديم استقالتهم.. فما بالنا ونحن نتحدث عن هيئة نظامية ذات طبيعة عسكرية.. وهى جهاز الشرطة القائم على الانضباط والضبط والربط.. فهل يجوز لأى أحد من العاملين فيه أن يرتدى ما يشاء. ألا يعد ذلك «تصنيفا» مسبقا وعنوانا عن شكل التعامل الذى سيتم مع الجمهور؟ وإذا كنا سنسمح للضباط أو الأمناء من الرجال بإطلاق لحاهم.. فما المانع أن يطالب آخرون «الضابطات» فيما بعد بارتداء النقاب!، وأيضاً أن يبالغ البعض ويتساءل لماذا لا يسمح للجنود بارتداء الجلباب؟! كده.. يبقى دخلنا على الحرس الثورى الإيرانى فهل نحن طامحون فى ذلك؟! ??? والأمر ينطبق على الجهات النظامية الأخرى.. ذات الطبيعة الخاصة.. ومنها الجيش.. والقضاء.. فهى جهات منضبطة ولها قوانينها ولوائحها الخاصة التى يجب أن تحترم، وإذا كان رئيس مجلس القضاء الأعلى قد ترك لحيته الصغيرة لأسباب صحية.. فلا يجب أن يتخذ البعض ذلك كدعوة عامة لإطلاق القضاة لحاهم فهم سدنة العدالة وظل الله على الأرض.. ومطالبون أن يحكموا بين الناس بالعدل وبالقوانين السارية.. وأتذكر هنا مشهداً من فيلم سينمائى للفنان عادل إمام.. (طيور الظلام).. وكان يترافع فى قضية دعارة وعندما تابع الأحكام التى يصدرها القاضى سارع بالخروج من القاعة وإحضار محام آخر عرف كيف يخاطب القاضى الذى حكم بالبراءة! نعم.. حدث ذلك فى فيلم سينمائى.. ولكنه ليس بعيدا عن الواقع.. وقد حدث من قبل فى محكمة عابدين المشار إليها سلفا، فنحن بشر ويجوز أن يتأثر كل منا بمعتقداته أو انتماءاته الخاصة.. ولكن الأمر مختلف فى القضاء. فالعدالة معصوبة العينين لا تتأثر بما حولها، وإنما تطبق القانون على الوقائع المعروضة عليها. فلسنا ضد الحرية الشخصية للأفراد.. ولكن ضد أن تصطدم تلك الحرية الشخصية بالقوانين واللوائح والعرف السائد مادام لا يخالف شرع الله.. وأجدادنا العظام قالوا «استطعم ما يعجبك.. والبس ما يعجب الناس» لأنك سوف تتعامل معهم وأحيانا يكون المظهر كاشفا عن الجوهر، ثم إن القانون يلزمنا جميعا بمعاملات وتصرفات محددة.. فلماذا يرغب البعض فى المخالفة بحجج ودعوات مختلفة لم تثبت صحتها.. فضلا عن اختلاف الأزمنة.. ورسولنا الكريم أرشدنا «أنتم أعلم بأمور دنياكم».. صدق رسول الله. وأعتقد أن هناك قضايا أهم وذات أولوية ملحة يجب أن ننشغل بها.. فالبلد يعانى من مشاكل كثيرة.. والأولى أن نعالج تلك المشكلات المتعلقة بحياة الناس.. بدلا من أن ننشغل بجدل لا طائل منه حول «الشكل والمضمون»!.. ??? يرتبط بما تقدم.. ما أشرت له الأسبوع الماضى.. حول المعونة الأمريكية.. وأنها مجرد ذوبعة فى فنجان.. لأنها عنوان لقضايا أهم بين مصر وأمريكا.. فالاقتصاد المصرى يعانى من ثلاث علل أشار إليها محافظ البنك المركزى فى لقائه بأعضاء مجلس الشعب.. وهى تراجع الاحتياطى النقدى.. والعجز المزمن فى الميزان التجارى والمدفوعات.. وتراجع النمو واستمرار عجز الموازنة، وكنت أعتقد أن يسارع المجلس بتكليف لجانه المختلفة ومنها لجنة العلاقات الخارجية أو اللجنة الاقتصادية بالسفر إلى الدول العربية وبعض الدول الأجنبية الصديقة فيما يسمى ب «الدبلوماسية الشعبية».. لشرح حقيقة الأحداث فى الواقع المصرى.. والذى يحاول حالياً الخروج من المرحلة الانتقالية بخطوات منتظمة.. ومن ثم يعمل على إعادة السياحة إلى سابق عهدها، وكذلك زيادة التبادل التجارى مع تلك الدول، فضلاً عن دعوة مستثمريها للعمل فى مصر. ألم يلاحظ السادة النواب ما حدث الأسبوع الماضى..؟ فعلى الرغم من توتر العلاقات بين مصر وأمريكا فإن المرشح السابق للرئاسة الأمريكية حضر إلى مصر على رأس وفد اقتصادى يضم 25 شركة.. للمشاركة فى المؤتمر الذى نظمته الغرفة التجارية الأمريكية بمصر من أجل زيادة التبادل التجارى بين البلدين وخاصة الصادرات المصرية للسوق الأمريكى ومن خلال زيادة حصة الموردين المصريين للشركات الأمريكية الكبرى. فقد حرص السيناتور الأمريكى على التأكيد بأن العلاقات بين البلدين متشعبة وممتدة.. وهى علاقات استراتيجية لن يؤثر فيها كثيرا موضوع محاكمة الأمريكان المتهمين بالتمويل الأجنبى، وهو ما أكدته السفيرة الأمريكية أيضاً من استعداد بلادها للعمل مع الشركات المصرية لتحسين الوضع الاقتصادى المصرى بعد تدهوره مؤخراً وتعرضه لأزمات تزامنت مع عدم الاستقرار السياسى والأمنى! وهو ما أكد عليه كذلك جمال محرم رئيس الغرفة.. من أن الاستثمارات الأمريكية فى مصر بلغت أكثر من 15 مليار دولار، كما ارتفع حجم التبادل بين البلدين إلى حوالى 48 مليار جنيه مصرى.. مطالبا بتحويل المعونة إلى عمليات تجارية واستثمارية ضمن خطة لوضع مصر كمركز إقليمى للشركات الأمريكية الراغبة فى التصدير لدول المنطقة. ??? والمعنى.. أنه لا مانع أن نختلف حول بعض الأمور والقضايا المحلية.. ولكن يجب ألا يشغلنا ذلك عن بذل الجهد المتواصل للخروج من عثرتنا الحالية والانتقال إلى مرحلة «النهضة» السياسية والاقتصادية وهو ما لن يحدث إلا إذا انشغلنا بالجاد من القضايا المهمة مع ترتيب الأولويات.. كفانا الله شر فتنة الجدل والخلاف حول «المظهر والمضمون»!