«الحُرة لا تأكل بثدييها».. والمصرى الحُر لا يخضع إلا لله.. وقد تأكد هذا المعنى السامى بعد ثورة 25 يناير. وجاء استطلاع الرأى الذى أجراه معهد جالوب الأمريكى ليثبت ذات الاتجاه.. عندما رفض 71% من المصريين المعونة الأمريكية.. إجمالاً.. ورفض 74% منهم المعونة الأجنبية (بما فيها الأمريكية) لمنظمات المجتمع المدنى التى نشأت خلال السنوات الأخيرة تحت مظلة دولية وعربية وأمريكية.. وخدم الكثير منها هذه الأطراف.. ضد مصلحة مصر.. وحضارتها وعقيدتها. ولنا أن نتساءل: ماذا لو حدث العكس؟! ماذا لو قامت مصر – جدلاً – بتمويل منظمات أمريكية.. وتدخلت فى الشأن الأمريكى؟ وقامت واشنطن رداً على ذلك باعتقال مصريين فى الولاياتالمتحدة؟ وقد اعتقلت الكثير من العرب والمسلمين وأغلقت عشرات المنظمات الإسلامية والعربية.. ولم ينطق أحد بكلمة.. بعد 11 سبتمبر!!أعتقد أن السادة المشرّعين الأمريكيين الذين يحركهم اللوبى الصهيونى لن يصمتوا وسوف يتهمون مصر بالتدخل السافر فى شئون بلادهم.. بل كانوا سيحاكمون العملاء الأجانب ويلقونهم فى غياهب جوانتانامو.. حيث لا قانون ولا احترام لحقوق إنسان أو حيوان. ولكن لأن واشنطن وإسرائيل والغرب عموماً.. يفصِّلون هذه المبادئ على هواهم وحسب مصالحهم فإن مبادئ الأمس يمكن أن تنقلب اليوم وغداً وبعد غد.. وفقاً لبورصة التطورات الإقليمية والدولية.. والثنائية أيضاً! ولنا أن نتساءل أيضاً: ماذا استفادت مصر من المعونة الأمريكية.. وماذا خسرت بسببها؟ بداية نذكر «الفوائد» التى عادت على مصر.. أو على النظام السابق تحديداً.. ومن يدور فى فلكه.. حتى الآن. صحيح أن هناك مشاريع للبنية الأساسية وبرامج التدريب والمنح الدراسية تم تمويلها من خلال المعونة الأمريكية ولكن هذه المشاريع والبرامج كانت مشروطة بأن تتم من خلال خبرات ومواد وسلع أمريكية المنشأ!! أى أن ما تقدمه لنا واشنطن باليمين تسحبه بالشمال.. مثل الحواه وعصابات المافيا. وكثيراً ما كانت تفرض علينا السلع الأمريكية الأغلى سعراً.. خلافاً لقواعد التجارة والسوق الحرة، أيضاً فتحت المعونة السوق الأمريكية أمام السلع المصرية.. وأصبحت واشنطن شريكاً تجارياً رئيسياً مع القاهرة، وهذه مصلحة متبادلة.. فالسلع المصرية ذات أسعار رخيصة ويتم انتقاء الأجود منها.. مثل المنسوجات والملابس القطنية، وهذه ميزة متعادلة إلى حد ما.. مع العلم بأن كبار المصدّرين للسوق الأمريكية معروفون ويجيدون هذه اللعبة وكانوا يرتبطون أيضاً بالنظام السابق. أما التدريب والمنح.. فهو مفيد من الناحية التكنولوجية والعلمية.. ولكنه يصبغ هؤلاء الدارسين والمتدربين بالفكر والحضارة الأمريكية.. وكأن المطلوب هو أمركة هؤلاء المبعوثين.. حتى يعودوا إلى مصر يُسبَّحون بحمد العم سام!! هذا فى حساب «الفوائد» وهى محدودة وهامشية مقارنة بخسائرنا الرهيبة من المعونة الأمريكية، ولعل أولها إخراج مصر من إطار الدور الريادى العربى.. بل تحجيم وإضعاف أهم أركان البناء العربى، وانعكس ذلك على الكثير من القضايا الكبرى.. ومن أبرزها العراق التى ضُرب مفاعلها النووى عام 1981.. ولم تحرك مصر ساكنا.. وتم غزوها عام 2003.. وأيدت مصر الغزو.. بكل أسف فى ظل نظام فاسد وقهرى وعميل، وحاصر هذا النظام غزة وساهم فى ضربها.. بالعلم أو بالتواطؤ أو بالصمت على أقل تقدير، وغيرها من المواقف الاستراتيجية الخطيرة التى أكدت إخراج مصر من محيطها العربى وارتمائها فى أحضان الغرب وإسرائيل. أما المعونة العسكرية – ونحن لا نقلل من حجمها وأهميتها – ولكنها كانت مشروطة بشروط فنية وعسكرية وسياسية واستراتيجية، لعل أبرزها عدم استخدامها ضد إسرائيل ومن يدور فى فلكها. كما أن طبيعة التسليح الأمريكى وشروطه الفنية لم تكن لتسمح لمصر بالتفوق على إسرائيل.. حتى لو تم وضع القدرات التسليحية للقاهرة مع كافة دول المنطقة فى كفه.. وإسرائيل فى كفة أخرى.. راجحة بكل تأكيد، صحيح أصبح لدينا تسليح أمريكى ولكننا كنا أسرى لهذا النظام التسليحى دون تنويع مصادره.. مما يشكل خطراً على قدراتنا العسكرية وعلى دورنا الإقليمى.. مع العلم بأن هناك دولاً أخرى تنتج سلاحاً لا يقل كثيراً عن السلاح الأمريكى.. وبسعر أرخص.. وربما بشروط فنية وسياسية أفضل، ومع ذلك فإننا لا ندعو للتسرع بالاستغناء عن هذه المعونة إلا إذا فُرض علينا ذلك.. مع الإسراع بإيجاد البدائل فوراً.. وهذا أمر يسير. ولعل أخطر انعكاسات المعونة الأمريكية على مصر يتمثل فى الاعتماد على الغير والتبعية لواشنطن اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. ولا يمكن أن يستمر هذا الوضع بعد ثورة 25 يناير. والولاياتالمتحدة تدرك تماماً.. منذ سقوط نظام مبارك.. أن هناك تحولاً جذرياً واستراتيجياً فى علاقتها مع مصر.. ولكنها تصعِّد عمداً ووفق خطة مدروسة لإحداث انهيار كامل فى هذه العلاقات. فعندما تتدخل واشنطن فى شئوننا الداخلية وتموّل هيئات ومنظمات وجمعيات بمئات الملايين من الدولارات.. سراً ودون التنسيق الرسمى مع الحكومة المصرية.. وعندما تضغط على دول الخليج لمنع تقديم المساعدات التى وعدت بها مصر.. وعندما تضغط أيضاً على مؤسسات التمويل الدولية لفرض شروط قاسية ضدنا.. عندما يحدث هذا – وغير المعلوم منه أكثر – فإن واشنطن هى التى بادرت بالتحول ونقض العهود والمواثيق.. بما فى ذلك معاهدة كامب ديفيد التى تمثل حجر الزاوية لأمن إسرائيل.. وللوجود الأمريكى فى المنطقة. ولعل قيام الوفد العسكرى بقطع زيارته لواشنطن قبل أيام تؤكد هذا التحول الاستراتيجى. وحسناً فعل أعضاء الوفد بقرار إلغاء الزيارة.. وهو قرار سيادى رفيع بلا شك.. يعكس كرامة مصر وعزتها.. وقدراتها أيضاً على الضغط على واشنطن التى قد تظن.. جهلاً أو عمداً.. أنها الطرف الأقوى وأن مصر مازالت تابعة لها.. وعليها السمع والطاعة، نقول لهم لقد انتهى هذا الزمن الردىء بغير رجعة.. ولدينا أوراق ضغط كثيرة وقوية جداً. فإسرائيل حليفتكم المدللة فى أضعف حالاتها.. وسوف يزداد هذا الضعف وهناً على وهن إذا استمرت هذه السياسة المنحازة وغير الموضوعية.. أما أمن الخليج فلن يتحقق دون مصر.. ولن يستمر تدفق إمدادات البترول دون تأمين قناة السويس.. المصرية الخالصة. هل تريدون استعراض أوراق القوة المصرية، إنها كثيرة كثيرة جداً.. وأبرزها وأهمها هذا الإنسان العظيم الذى انتفض ضد نظام مستبد دكتاتورى دعّمته واشنطن.. راعية الدكتاتوريين والمستبدين عبر العصور وإجمالاً فنحن لا نريد «الشيكات السوداء» التى لوّح بها عضو مجلس الشيوخ الأمريكى «باتريك ليهى»! ولتذهب هى وصاحبها إلى مزبلة التاريخ!