الأقباط يؤدون صلوات الجمعة العظيمة بدير القديس متاؤس في الأقصر    وزارة العمل: توفير 3408 فرص عمل جديدة في 55 شركة خاصة    وأنت في مكانك، خطوات تجديد بطاقة الرقم القومي أونلاين    تنبيه مهم من بنك مصر للعملاء    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الجمعة في الأسواق (موقع رسمي)    مصر تدخل عصر رقمنة البيانات الحكومية    طريقة تشكيل لجان نظر التظلمات على قرارات رفض التصالح في مخالفات البناء    ارتفاع أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة (موقع رسمي)    ربط الوادي الجديد ب"الصعيد".. وزير الإسكان: تنفيذ محور "الخارجة - سوهاج" بطول 142 كم    سيناتور أمريكي يصف مظاهرات الجامعات الأمريكية الداعمة لفلسطين ب "فيتنام بايدن"    حرب غزة، رسائل مصرية قوية للعالم لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى    تايوان ترصد 26 طائرة و5 سفن صينية بمحيط الجزيرة    وزير الدفاع الأمريكي: القوات الروسية لا تستطيع الوصول لقواتنا في النيجر    غارات صاروخية لحزب الله على شمال إسرائيل    الأهلي يواجه سبورتنج في نهائي كأس السلة للسيدات    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    ضبط عاطل يدير مصنع حشيش في بدر وعنصرين إجراميين بحوزتهما مخدرات بالمنوفية    أمن القاهرة يكشف تفاصيل مقتل شاب على يد ممرضة ووالدها بالمقطم    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق مخزن ملابس بالعمرانية    ضبط أسماك وفسيخ غير صالح للاستهلاك الآدمي في البحيرة.. صور    «أم الدنيا».. أرض الأعياد    رحلة في العالم الروائي لأديب نوبل نجيب محفوظ بمعرض أبو ظبي للكتاب    بول والتر هاوزر ينضم ل طاقم عمل فيلم FANTASTIC FOUR    واعظ بالأزهر ل«صباح الخير يا مصر»: علينا استلهام قيم التربية لأطفالنا من السيرة النبوية    هل مسموح للأطفال تناول الرنجة والفسيخ؟ استشاري تغذية علاجية تجيب    ألونسو: قاتلنا أمام روما..وراضون عن النتيجة    الشارقة القرائي للطفل.. تقنيات تخفيف التوتر والتعبير عن المشاعر بالعلاج بالفن    حكم لبس النقاب للمرأة المحرمة.. دار الإفتاء تجيب    خريطة التحويلات المرورية بعد غلق شارع يوسف عباس بمدينة نصر    خالد الغندور عن أزمة حسام حسن مع صلاح: مفيش لعيب فوق النقد    تشكيل الهلال المتوقع أمام التعاون| ميتروفيتش يقود الهجوم    إشادة حزبية وبرلمانية بتأسيس اتحاد القبائل العربية.. سياسيون : خطوة لتوحيدهم خلف الرئيس.. وسيساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في سيناء    مستوطنون يهاجمون بلدة جنوب نابلس والقوات الإسرائيلية تشن حملة مداهمات واعتقالات    لأول مرة.. فريدة سيف النصر تغني على الهواء    اعتصام عشرات الطلاب أمام أكبر جامعة في المكسيك ضد العدوان الإسرائيلي على غزة    مواعيد مباريات الجمعة 3 مايو 2024 – مباراتان في الدوري.. بداية الجولة بإنجلترا ومحترفان مصريان    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدد المرات.. اعرف التصرف الشرعي    حكم وصف الدواء للناس من غير الأطباء.. دار الإفتاء تحذر    «التعليم»: امتحانات الثانوية العامة ستكون واضحة.. وتكشف مستويات الطلبة    الناس لا تجتمع على أحد.. أول تعليق من حسام موافي بعد واقعة تقبيل يد محمد أبو العينين    إبراهيم سعيد يكشف كواليس الحديث مع أفشة بعد أزمته مع كولر    وزارة التضامن وصندوق مكافحة الإدمان يكرمان مسلسلات بابا جه وكامل العدد    «تحويشة عمري».. زوج عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف في ترعة ينعيها بكلمات مؤثرة (صورة)    موضوع خطبة الجمعة اليوم وأسماء المساجد المقرر افتتاحها.. اعرف التفاصيل    مواعيد صرف معاش تكافل وكرامة بالزيادة الجديدة لشهر مايو 2024    دراسة أمريكية: بعض المواد الكيميائية يمكن أن تؤدي لزيادة انتشار البدانة    دراسة: الأرز والدقيق يحتويان مستويات عالية من السموم الضارة إذا ساء تخزينهما    أهداف برشلونة في الميركاتو الصيفي    رسالة جديدة من هاني الناظر إلى ابنه في المنام.. ما هي؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربيع الدكتاتور خريف الغضب
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 08 - 2010

كان لا بد للدكتاتور من السقوط عن المنصة، علي مرأي من جنوده، وعلي شاشة التلفزيون التي يعبدها، ليتمكن الكاتب من وضع الفصل الأخير من كتاب العمر: "خريف الغضب".
لم يَسْلَم أحد منا، نحن أبناء الجيل الذي رأي عكس كل شيء، من انهيار ما في المعني وفي الروح، ومن صدمة ولادة ما نحتاجها في خطوة مجهولة علي طريق واضح.
نتخبط في الحلم وفي الأنقاض. نبدل الآلهة التي نحتاج إليها لنتوازن. نضع الكرة الأرضية أمامنا في الزنزانة. نثقب ما يثقب لننفذ إلي سؤال الوجود الكبير، الذي يحدده سؤال البيت الصغير، سؤال السؤال: لماذا نقف في تاريخنا، خارج التاريخ؟
وبين الكاتب والدكتاتور _ من هو هذا، ومن هو ذاك؟ لأن لكليهما آخرهُ، وفيه أيضاً حاله _توتر العلاقة التي لا ترسو إلا في انتحار الآخر، وفي سقوطه، وهو في ربيع البطش.
سَمِّ الدكتاتور ما شئت، فهو حال شهوة أو رغبة مكبوتة ومتفجرة معاً، لا تثير فينا من تعبير الغريزة إلا ما ننعته به: عادلاً أو ظالماً، إذ نحن في هذا الشرق الجميل، بشمسه وامتثاله، وتاريخ آلهته، قد اعتدنا، وبقابلية غريبة علي الطاعة الحرة، ألا نعتبر "الدكتاتور" نعتاً، لأنه حال نهائية، مقبولة، شعبية، تاريخية، مسلم بها كأنها قدر أو واقع موضوعي.
إن صفة هذه الصفة هي التي ترد إلينا الانتباه: ظالم أو عادل! هل تلاحظ إلي أين وصلنا نحن عشاق، أو عبيد، الفصل الأخير من أي شيء، من أي تاريخ، أو أرض، أو سياسة، أو قصيدة، أو طباع رجل؟
هكذا يحبُّ الكاتب الدكتاتور. يري فيه القدرة علي التغيير الشامل، أو النشيد الشامل؛ العملية الجراحية الكبري في روح الأمة وفي انغماره في ورق أبيض، وفي كينونة بيضاء إذا مسهما حبر الإلهام غيَّر، سواء أكان الورق للكتابة أم لتسجيل قرار الحرب والسلام.
كأنه يقول: الدكتاتور الجميل هو أنا في سلطة لغتي، التي تتحول في شبيهي إلي مصانع، ودبابات، وسجون، تقنع خصوم لغتي بإعادة النظر. والدكتاتور القبيح هو ذلك الرجل الجالس علي عرش بشع لا يشبهني في شيء.
الكاتب لا يحب الدكتاتور إلا بقدر ما يحركه، وبقدر ما يجد فيه ترويجاً لأحلامه الخاصة. قد تكون هذه الأحلام الخاصة استقطاباً لأحلام جماعية، عندئذ يتم التطابق أو التصالح بين النار والماء، بين ما هو فردي وما هو جماهيري. ويصبح من واجب الحقيقية أن تضيع في زحام العواطف الجميلة. وتساق الأمة إلي الطاعة المختارة بجنون المبدعين، الذين يتصورون أنهم صاغوا قرار الحاكم.
عم نبحث؟
عن جمال اللحظة العسكرية، حين تمتحن الأمة صدق تاريخها، وسلامة روحها، بنشيد واحد علي حدود المواجهة مع عدو خارجي، يهدد العرش والشارع معاً: إما الحرية وإما الموت- هذا هو نشيدنا.
ومن مفارقات الطاعة أن الحرية لا تمتحن إلا هناك، بينما الموت بلا حرية شائع في الداخل. كأننا نسلم بأننا لم نولد من أجل الحرية إلا علي الحدود؛ علي حدود الأشياء. أما الداخل _ داخل الأشياء وداخلنا- فهو ليس لنا. إنه من اختصاص الحاكم، ومن محض شؤونه.
الآن يتم الفراق، أو آن له أن يتم. ولعل هذا الفراق هو المناسبة الوحيدة الصالحة لتثبيت الأسئلة علي أرض صلبة. فعندما يندرس المكان الذي كان، وحده، امتحان الحرية _وهو حدود المواجهة مع العدو الخارجي، ويسوي بالوحل والمعاهدة، وترفع عليه لافتة تقول: الدخول ممنوع، والكتابة ممنوعة، والتذكر ممنوع؛ وأكثر من ذلك: يصير مزاراً يحج إليه الحاكم الدكتاتور يداً بيد مع عدو صار صديقاً، بلا سبب، لوضع إكليل من الورد علي قبر الصراع والكرامة... عندها تتمرد الطاعة. تنتهي حالة الطوارئ. تمتد الأسئلة كالسهام الجارحة نحو الخبز، والمساواة، والحرية الفردية، ونظام الحكم، وحرية التعبير، وحق العمل. ويتم الطلاق بين الكاتب والدكتاتور.
عندها يقول الكاتب: هذا هو أنور السادات.
وعندها يضع السادات كاتباً كبيراً هو محمد حسنين هيكل في السجن.
وعندها يتقدم جندي مصري، صار عاطلاً عن العمل في صياغة حرية مصر، من منصة الدكتاتور.. ويطلق عليه النار.
انتهت أشياء كثيرة في لحظة. وسننتبه بعد قليل أن ما انتهي يصرُّ علي البحث عن بدايته الجديدة، لأن الدكتاتور ليس شخصاً. ولكن الذي انتهي، ونريد له أن ينتهي، هو التباس العلاقة بين الكاتب والدكتاتور، وبالتالي انتهي سؤال الحرية المموه.
الكاتب يوطد دوره: دور الشاهد، دون أن نتساءل الآن عن دور المنخرط منذ البداية في جنين البدائل، التي تنشط خارج النص، نص السلطة.
لا نتساءل، لأن الانحطاط السياسي الذي بلغ حد تشريع التماثل، أو الالتحام بين الحاكم- الدكتاتور، وبين الأرض _التاريخ- الشعب، حظر حتي دور الشاهد. أن تشهد علي ما يحدث، أن تشهد علي ما تعرف، أن تسجل الشهادة الباردة والمحايدة، فذلك نوع من الإلحاد لا يدفع الكاتب إلي خارج دوره فحسب، بل يدفعه إلي خارج قرائه، الذين حوصرت مصادر وعيهم، ومعرفتهم، بأجهزة اتصال يحتكرها الدكتاتور.
من يستطيع أن يكون شاهداً هو الشهيد ذاته. ولذلك، فإن من يثيرون هذه العاصفة الأخلاقية، الدينية، علي شهادة هيكل، لا يثيرون إلا ما يجعل سؤال الديمقراطية سجناً. لأن "حرمة الموتي"، التي يؤثرونها علي حرية الأحياء، هي دعوة سياسية لإلغاء الكتابة، ولإلغاء كتابة التاريخ، لأن من شروط هذه الكتابة أن تكتمل دائرة السيرة، من الولادة إلي الموت. أي كان علي السادات أن يموت لكي يكتب هيكل سيرة حياته. وهذا السؤال الأحمق: لماذا يكتب الكاتب كتابه أثناء حياة الدكتاتور؟ إما أنه يحفل بالجهل، وسوء النية المتجه إلي صرف النظر عن الأساس، وإما أنه يدير سؤال الحرية بطريقة تجعل حرية الرأي امتيازاً للسلطان، الذي سيواصل الحكم والتحكم من القبر.
لسنا محايدين في هذه الزوبعة.
فهي ليست خلافاً علي وقائع. ولا يعنينا منها تضارب العواطف بين الكاتب والحاكم في مرحلة من مراحل العلاقة بينهما. ولا نتوقف أمام دور يبدو لنا أنه كان سلبياً، لم يقنعنا الكاتب في تبريره، حين ساعد بكتابته، أو بنشاطه الخفي، علي إرساء سلطة السادات في انقلاب الخامس عشر من مايو.
ما يعنينا هو الدور التاريخي الذي أعد للسادات، وأعد له نفسه بكامل العدة والشبق، من إعادة بناء الداخل المصري حتي العلاقات الدولية، بما يوفر شروط انعطاف الوطن العربي، أو منطقة الشرق الأوسط، في اتجاه معاكس لحركة تاريخها، وللتضحيات والحروب التي خاضتها من أجل صياغة حرية إنسانها، وتحرير أرضها، وبناء مستقبلها المستقل.
لسنا محايدين في هذه المسألة، فهي سؤال عمرنا كله.
إن الظاهرة الساداتية، التي يشرحها هيكل بكل ما يملك من أدوات المعرفة، والتحليل، والمعلومات والمعايشة المباشرة، قد جرَّت المنطقة العربية من سؤال الحرية، والاستقلال، والحلم الجميل، إلي سؤال الفساد والاستبعاد الخارجي المباشر، بتحويلها الصراع مع إسرائيل إلي تنافس معها علي لعب الدور الأميركي. لقد نقل السادات المسألة العربية في صراعها التاريخي مع أشد معوقات تطورها _إسرائيل- إلي منافسة إسرائيل، أو مشاركتها، في العملية الأميركية في الشرق الأوسط.
مات السادات دون أن يعثر علي جواب للسؤال الأميركي: هل الدول العربية قادرة علي مشاركة إسرائيل، بكفاءة، في خدمة الدور الأميركي؟ وهل الوضع العربي مؤهل للانخراط في العملية الأميركية، وهو _ والسؤال ما زال سؤالاً أميركياً _ يتميز بالتخلف، وعدم الاستقرار، وعدم القدرة علي استيعاب التكنولوجيا الحديثة، وحامل بشتي الاحتمالات، والمفاجآت، وعوامل التغيير والتفجير؟
ماذا يعني هذا السؤال الكارثة الذي أوصلت الساداتية المسألة العربية إليه؛ السؤال الذي ستتضح مأساويته في منتصف طريق تصعب العودة عنه؟
يعني، في بساطة: أن علي الحكم العربي أن يعد نفسه، وطاقاته، وثرواته، لخوض المزيد من المعارك مع ذاته، مع شعوبه، مع فلسطينه، مع طلبته، مع لغته، مع تاريخه، مع أصدقائه، مع رغيف الخبز، مع أحلامه السابقة، لكي يبرهن لأميركا صلاحيته في أن يكون تابعاً لها. أرأيتم كم من جهد يبذله الخادم ليمول ارتباطه بسيد يفتقد فيه جدارة الخدمة بلا مقابل!
هذه هي لوعة الحكم العربي الباحث عن أب.
لقد قضي السادات عمره ليقول لأميركا فكرة واحدة: إنه، ومصر، والنفط، والأمة العربية، خير لها من بيجن، وحزب ليكود. قضي عمره وهو يحاول الدخول مع شرق المتوسط في لغة المصلحة الأميركية المعقدة. والغريب أنه كان يخوض معركة الحب والكسل هذه مجرداً من سلاح الخيارات، وبمزيد من العري المادي والسياسي والأخلاقي. فكلما قالت له إسرائيل: هات، قال خذي وخذي حتي ماء النيل، ولبنان، والتوزيع الطائفي للمجتمع العربي، والعداء المشترك للاتحاد السوفياتي. وكانت إسرائيل تنهب مواقع القوة العربية، وتبلغ واشنطن أنها، وهي قوية متفوقة، وحدها القادرة علي امتصاص الجسد العربي، والفكر العربي. فلولا قدرتها علي إخضاع العرب لما نشأت الظاهرة الساداتية. ولولاها، وهي المجتمع العسكري المتماسك المستقر، الذي لا تهدده عوامل تغيير داخلي، لما اصطف الوضع العربي في صلاة جماعية أمام أبواب البيت الأبيض. لا ضمان لأميركا، أذاً، إلا الاحتفاظ بوكيل واحد لها في الشرق، هو إسرائيل القوية. أما القضايا الصغري مثل احتلال لبنان، وضم الأرض الفلسطينية، والجولان، فلا تستحق أن يحسب لها حساب أمام الاعتبار الاستراتيجي الشامل، الذي تتحدث إسرائيل من داخله وفي شروطه.
فهل علي العرب، بعد السادات، أن يواصلوا هذه المعركة؟!.
هل سنواصل مشاهدة العبودية التي تلتذُّ بكونها عبودية، لا من باب افتتان المستلب بالسالب وتقليده، بل من باب انفتاح غرائز الشهوة البدائية علي ما هو رخيص، ومن باب إيمان مشروط بوقف الإيمان علي جمود مراتب تعطي "رب العائلة" الحق الوحيد في الكلام، وفي القرار، وفي التصرف العابث بمصير الوطن؟. ألا يطرح سؤال الديمقراطية إلا علي هذا الجانب؟. أما زال ممكناً أن نساوي بين من باع العائلة، والأرض، والنهر، والأمة، وبين من شهد علي ذلك؟
إن الحملة علي "خريف الغضب" ليست حملة أخلاقية، لأن السادات يلخص تاريخ سياسة عربية ما زالت متواصلة وسائدة. وليست حرمة الموتي هي ما يثير نقاد هيكل المتكاثرين، بل الحرص علي حرية الساداتيين الأحياء، في مصر والعالم العربي، الذين يواصلون دفع المركب الأمريكي في دمنا، وفي شتي مستويات حياتنا السياسية، والثقافية، والأخلاقية. فهذا الانحطاط الشامل في بيت النظام العربي الواحد، نعم الواحد، ليس إلا مظهراً من تجليات الساداتية، أو نتيجة من نتائجها.
والقدح والهجاء؟ لم لا؟!
هل رأي المصري والعربي من المدرسة الساداتية، أو المزرعة الساداتية، إلا ما يستحق الهجاء؟. لم نكون مهذبين في مواجهة هذا النهب المنهجي للأرض والروح والمصير؟. إن رمز الفساد، والانحطاط، وفتح الوطن العربي للاحتلال المباشر، لا يُعاقب الآن بما هو أكثر من تقديم الشهادة عليه. أليست وقائع حياة الساداتية، وأسرته، وسياسته، وخضوعه الكلي لمرآة الغرب، هي التي تهجوه وتشهر به، وتزيح الضباب عن عيون قطاع من الشعب تعرض للخديعة حين قيل له: إن صداقة الأعداء، ومعاداة الأصدقاء، ستزيد وجبة الفول، وإذا بالفول مفقود من مصر.
ليس كتاب هيكل المدهش قصة عن فترة مضت من تاريخ مصر والعرب، إنها شهادة الآن.. وهذا ما يجعل كتاب أرباب العائلات الحاكمة خائفين، لأن ما تقوله سيرة حياة هذا الدكتاتور الرخيص تقوله حياة حكام آخرين، تقوله سياستهم، يقوله اندفاعهم المجاني علي واشنطن. والذين يدافعون عنه، عن السادات الحي فيهم، يدافعون عن فسادهم وعن عبوديتهم. فالسادات ليس عبداً لأن أمَّهُ أَمَةٌ _كما أرادوا أن يفهموا- بل لأنه كان يبيع الأمة إلي من هو أكثر عبودية منها، ظاناً أن صورة الحرية لا تقاس إلا بمرآة الغرب، ولأنه استبدل الصراع بالامتناع عما يوهم حكمه الأميركي بأننا طرف في الصراع.
إن محاكمة المرحلة الساداتية هي محاكمة ضرورية، وثورية، لمعرفة اتجاه المفاوضات الدائرة بين وضع عربي يعذبه العجز عن أن يكون شبيهاً لاسرائيل في علاقتها بأميركا، وبين سراب قادر علي تجريد الطرف العربي من أي سلاح، حتي سلام الحلم.
محاكمة السادات هي محاكمة الوضع العربي الذي انعطف دون أن يجرؤ علي التعبير عن نفسه، فكان السادات ناطقه الرسمي. وهي محاكمة ومراقبة الانهيار التدريجي الذي أصاب بُني المجتمع العربي دون أن يتمكن الفكر العربي من مراقبة الظاهرة في نموها، وفي علاقات أطرافها، من تفريغ القطاع العام في مصر، إلي تغيير موسيقي النشيد الوطني، إلي ظهور الصليبيين الجدد في لبنان، إلي اتفاقيات كامب ديفيد، إلي احتلال بيروت، ومذابح الفلسطينيين في كل مكان، إلي توقيع اتفاقية إنهاء الحرب، وملحقاتها، بين إسرائيل ولبنان.
لقد وقعت الكارثة. ما سيتلوها سيكون تنويعات علي إيقاعها المهيمن، منذ استدرج الوضع المصري الداخلي، بقيادة السادات ولهفته، إلي وضع الأوراق كلها في يد أميركا، وأسلم إلي خيار وحيد: توقيع الصلح، أو الاستسلام، أو القفز السعيد في قيود السيطرة الأميركية، الذي عني، حتي الآن، إخراج مصر من الساحة دون أن ينجح هذا النوع من السلام في مداواة جراح مصر، فتوفرت لاسبارطة اليهودية فرص أسهل لتحسين ديموقراطيتها العائلية، وتفتيت الحال العربية اليتيمة بعد مصر، الحال المحرومة حتي من نعم كامب ديفيد.
كنا دائماً نقول: إن كامب ديفيد ليس للجميع، بل هو لمصر ولبنان، لأن سائر المناطق "المتنازع عليها" _هكذا صاروا يسمون أوطاننا- غير قابلة للتفاوض، إلا إذا أضيفت إليها مناطق أخري سيقايض الجلاء الإسرائيلي عنها بالتسليم بالاحتلال الإسرائيلي السابق.
هذه هي ثمرة الدكتاتور، الرئيس المؤمن، الرئيس مدي الحياة، الذي استطاع في غياب الحد الأدني من الديمقراطية أن يجثم علي صدر وطن سماء عائلة، وسمي نفسه رب العائلة، وفصل ما يشاء من الثياب الدستورية علي مقاس شهواته.
فهل يكون الرئيس مدي الحياة رئيساً مدي الموت؟
هذا ما يسعي إليه أشباهه، أرباب العائلات العربية الأخري، الذين يريدون حرمان الوعي العام من الاطلاع علي الكيفية التي تربط بين خطوات السادات السياسية، المترابطة بمنهجية محكمة.
السادات لم يمت تماماً. فهل يفكر الكثيرون، بعمق، في الدلالة الخطيرة التي يشي بها منع "خريف الغضب" في العالم العربي، ووقف نشره في أغلبية الصحف التي باشرت النشر ثم أوقفته بأوامر عليا؟. هل نتجني علي أحد، أو علي وضع، إذا لاحظنا أن للساداتية، بما تعنيه من مصلحة أميركية _إسرائيلية- عربية، مركزية قرار، فنسأل: من الذي يحكم الوضع العربي؟ فلا نجد فارقاً بين الرئيس مدي الحياة والرئيس مدي الموت. لأن الرئيس ليس هذا ولا ذاك. إنه قابع في مكان آخر غير العرش وغير القبر.
للكاتب، إذاً، أن يزداد افتراقاً، وأن يجادل بين قوة الكتابة المستمدة من الالتصاق بالحقيقة، وبين قوة الدكتاتور التي تتزود أيضاً من ضعف الكتابة. فالضحالة المميزة لكل مستويات النشاط الثقافي هي شرط من شروط نمو الدكتاتور، الذي ينهب الثقافة. فليَفترق الكاتب، لِيَفترِق لكي يعرف كما يعرف محمد حسنين هيكل طاقته. إنه قادر علي تحطيم الصنم. شهادات الكتاب العرب علي زمنهم الوغد كافية لان تخلخل وتغير.
الأصنام كثيرة في الساحات والعقول. فليتقدم الكاتب. ولينهر الخديعة المهيمنة، فإن خريف الغضب سيجتاح ربيع الدكتاتور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.