أنتزع نفسى من بحر الأحزان وأقول إن ما حدث فى استاد بورسعيد لا علاقة له بالرياضة وكرة القدم والتعصب الكروى.. ولا يحتاج القارئ لكى يتأكد إلا أن يستعيد اللحظات الأخيرة من المباراة.. فريق فائز يتلاعب بالفريق الآخر ويحرز فى مرماه ثلاثة أهداف يحول بها الخسارة إلى فوز تاريخى.. جمهور الفريق الفائز سعيد ومنتشٍ من الفرحة، ينتظر بفارغ الصبر صافرة النهاية ليحمل لاعبيه على الأعناق ويسهر حتى الصباح - كما هو معتاد - فى شوارع المدينة يرقص ويغنى ويهتف للاعبين.. وعندما يطلق الحكم صافرة النهاية تقع المفاجأة المذهلة.. تندفع مجموعات من الجماهير تسابق الريح للحاق بلاعبى الفريق الخاسر ثم فجأة تتحول إلى مدرج الفريق الخاسر لتفتك بجماهيره.. كأن صافرة الحكم كانت إيذانا للجماهير باقتحام الملعب وليس لانتهاء المباراة.. كأنها كانت العلامة المتفق عليها لبدء المأساة.. غير أن الحقيقة أن المأساة بدأت قبل ذلك بكثير!.. قبل شهر وأكثر.. وقبل أن تبدأ المرحلة الثالثة من انتخابات مجلس الشعب.. كتبت عن معركة اختلقها الإعلام اختلاقا.. الميدان والبرلمان!.. فجأة انشغلت القنوات الفضائية بطرح سؤال غريب على ضيوفها: لمن الشرعية لميدان التحرير أم للبرلمان الذى انتخب الشعب أعضاءه؟.. وتبارى مذيعو الفضائيات وضيوفهم فى النفخ فى النار.. وسرعان ما نشب الحريق!.. دخل الميدان فى صراع مع البرلمان.. خاصة حزب الأغلبية.. وقبل أن تنعقد أولى جلسات البرلمان المنتخب احتشد شباب الميدان وراحوا يستعدون للدق بعنف على أبواب البرلمان!.. كان غريباً ولافتا للنظر أن الميدان يتعجل الصدام مع البرلمان الذى انتخبه الشعب.. وبدا المشهد فى منتهى الغرابة.. حزب الأغلبية لا صوت له تقريباً منكفئ على نفسه.. بينما الأقلية من الذين يقولون عن أنفسهم إنهم جاءوا من الميدان.. يملأون قاعة المجلس صراخا واعتراضا بصوت عال كأنهم الأغلبية!.. كل ذلك وجماهير الميدان تضغط على البرلمان وتحاصره وتهتف بسقوطه!.. وعندما لجأ حزب الأغلبية إلى شبابه ليحمى البرلمان وأعضاءه.. كادت الأمور تصل إلى حرب بين الطرفين.. الميدان والبرلمان!.. أغرب ما فى المشهد أن جماهير الميدان التى جاءت لاقتحام البرلمان والتى كادت تشتبك مع شباب الإخوان الذى جعل من نفسه درعا بشرية لحماية البرلمان.. أغرب ما فى المشهد هو محاولات استفزاز الجنود والضباط الذين كانوا يحرسون البرلمان.. والاشتباك معهم بأى ثمن!.. فلما فشلت المحاولة.. اتجه المتظاهرون إلى ماسبيرو يكررون المحاولة مع الجنود والضباط الذين يحرسون المبنى!.. كما حدث من قبل!.. *** نذكر جميعا أنه كانت هناك محاولات مستمرة منذ أكثر من ستة شهور للصدام بالجيش.. لأسباب مجهولة تحول شعار الشعب والجيش يد واحدة إلى هتاف يهاجم الجيش.. يسقط حكم العسكر!.. محاولات الصدام مع الجيش كانت مستمرة ومتوالية.. ومستميتة.. وفجأة أصبح المطلب الوحيد المُلحّ للميدان هو رحيل المجلس العسكرى.. الآن وليس غدا!.. ولم ينتبه أحد إلى أن هناك تناقضاً صارخاً بين مطالب الميدان الآن ومن قبل!.. كان الميدان يطالب بالدستور أولا قبل أى انتخابات وكان منطقه وحجته أنه من المستحيل انتخاب رئيس جديد يحكم بدستور قديم وصلاحيات قديمة قد تجعله أسوأ من الرئيس السابق.. لكن فجأة عاد الميدان يطالب بالانتخابات أولاً قبل الدستور.. وكان منطقه وحجته أنه لا يثق فى دستور تتم صياغته والمجلس العسكرى موجود فى الحكم!.. مع أن الحكم على الدستور فى النهاية.. للشعب!.. ولا تزال محاولات الصدام مع الجيش مستمرة ومتوالية.. ومستميتة.. ولم يصدق أحد الجيش عندما كان يتحدث عن مخطط إسقاط مصر!.. *** عندما تحدث المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن مخططات لإسقاط مصر فى ذكرى الاحتفال بثورة 25 يناير.. اتهمه الميدان بمحاولة إفساد الاحتفال بذكرى الثورة.. وعندما أعلن الجيش عن برنامج للاحتفال بالثورة اعترض الميدان وقالوا لن نحتفل وإنما سنطالب باستكمال مطالب الثورة.. وعندما مر يوم 25 يناير بسلام.. قالوا إن الجيش كان يكذب لمنع الناس من الانضمام للثوار فى الميدان!.. وعندما وقعت الأحداث الدامية التى شهدتها مدينة بورسعيد كان واضحا أن الأحداث جزء من المخططات التى حذر منها الجيش.. ورغم ذلك استمرت محاولات الصدام مع الجيش بل اتهامه أنه وراء مؤامرة استاد بورسعيد.. وكان غريبا أن تتحول الهتافات المنددة بالحادث الأليم والمفترض أن تطالب بالثأر من الفاعل.. إلى هتافات تطالب بسقوط حُكم العسكر!.. *** أعمى كل من لا يرى الحقيقة.. وغبى كل من ينكر وجودها.. يسقط الغباء.. ويسقط حكم الغباء!.. أيام فى الكويت أكتب عن انتخابات الكويت التشريعية قبل 24 ساعة من ظهور نتائجها.. وبعد أن أمضيت أسبوعا فى الكويت أتابع باهتمام ما يدور فى الكواليس.. الانتخابات الكويتية أو بالتحديد انتخابات مجلس الأمة الكويتى هذه المرة تعتبر من أهم الانتخابات التى خاضتها الكويت على امتداد تاريخها.. إن لم تكن أهمها على الإطلاق.. الانتخابات هذه المرة تأتى فى أعقاب حالة احتقان سياسى دفعت أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح إلى حل البرلمان قبل أكثر من شهرين.. هذه الانتخابات أيضاً تأتى فى مناخ «الربيع العربى» ومن ثم فإن برامج المرشحين فيها تتحدث بصراحة ووضوح عن إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية.. لا أظن أنها مجرد شعارات انتخابية وإنما هى مطالب جادة.. سيتبناها البرلمان وستعمل الحكومة على تحقيقها.. فى نفس الوقت فإن هذه الانتخابات تأتى فى إطار أزمة إيران (الجارة القريبة جداً) مع الغرب.. ولا أحد يعرف بالضبط تداعيات هذه الأزمة وتأثيراتها على الكويت خصوصا.. والخليج عموما.. وليس خافيا أن الكويت لها تجربة ديمقراطية قديمة ومتميزة.. يكفى أن نعرف أنه تم تأسيس مجلس للشورى فى الكويت عام 1921 وتم انتخاب أول مجلس تشريعى فى منطقة الخليج كلها عام 1938.. كما أن الكويت كانت أول دولة خليجية تضع لها دستورا.. وكان ذلك فى عام 1962.. هكذا حولت الكويت نفسها إلى دولة حديثة وهكذا مضت فى تجربتها الديمقراطية فكانت واحدة من أبرز التجارب فى المنطقة.. لكن هذا التاريخ الطويل وهذه التجربة القديمة لا يمنعان من أن الكويت تخوض انتخاباتها التشريعية فى ظل أجواء يسيطر عليها التوتر ويخيم عليها الاحتقان.. المعارضة تسعى من ناحيتها للفوز بغالبية مقاعد مجلس الأمة.. نواب الأزمة المعروفون فى الكويت بوقوفهم دائما وراء تفجير الأزمات يسعون للفوز.. الصراع بين المرشحين وصل إلى حد إحراق المقار الانتخابية.. الصراع لا يعبر عن نفسه من خلال المرشحين فقط وإنما أيضاً من خلال الصدامات بين الحكومة والمرشحين.. وقد حاولت الحكومة استبعاد بعض المرشحين من الذين يندرجون تحت بند مثيرى المتاعب.. غير أن القضاء نجح فى نزع فتيل هذه الأزمات بأحكامه القضائية التى أتاحت لمثيرى المتاعب خوض الانتخابات.. بحيث تكون الكلمة بعد ذلك للشعب الذى عليه أن يختار وأن يُحسن الاختيار!.. ويطرح السؤال نفسه: من يفوز فى الانتخابات التشريعية فى الكويت.. المتشددون والمعروف عنهم إثارة المتاعب.. أم المعتدلون؟.. الإجابة ستحددها صناديق الاقتراع التى بدأ بالفعل رصد أصواتها.. غير أن الأهم هو الممارسة الفعلية للنواب الفائزين الذين إما سيكونون على قدر المسئولية والتحديات التى تواجهها الكويت.. وإما أن يستمروا فى طريق التوتر والاحتقان.. وساعتها ستكون الخسارة للجميع!..