الكاتب البريطانى الشهير (سومرست موم)، والذى ولد فى 25 يناير 1874 م، نشأ فى بيئة عادية بسيطة، حشدت فى أعماق موهبته الكثيرمن الخبرات، التى سرعان ما أفرغها عبر قلمه، فى عدد من الروايات والمسرحيات، التى حققت رواجاً كبيراً فى حينه، حتى أنه كان من المسرحيين، الذين ما ان تحمل أية مسرحية اسمهم، حتى يبدأ الإقبال عليها، قبل حتى أن تعرض، وتباع تذاكرها مسبقاً، مع ثقة روًَّاد المسرح فى قوة كاتب المسرحية، وروعه معالجته لأحداثها، مما دفع أصحاب المسارح ودور النشر إلى التسابق على نيل رضاه، والفوز بأعماله، مما جعل منه أشهر روائى ومسرحى، مع بدايات القرن العشرين... فى تلك الفترة، اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م)، ولم يخطر ببال (موم) أن يشارك فيها عملياً، باعتبار أنه كان يعانى من ضعف رئوى، ناتج عن البيئة التى نشأ فيها، ولا مبالاته بصحته على نحو عام، شأن معظم الروائيين فى عصره... وعلى الرغم من دخوله الحرب، كان الاتحاد السوفيتى يعانى من عشرات القلاقل فى اعماقه، حيث سئم الشعب حكم أسرة (رومانوف)، وطغيانها، وسيطرة رجال القصر على مقاليد الأمور، وبات من الواضح، على الرغم من ظروف الحرب، أو ربما بسببها، ان الشعب الروسى مقدم على ثورة ...ولقد أدركت (المانيا) هذا، وأدركت أن نجاح الثورة يحتاج إلى قائد، تلتف حوله الجماهير، ولهذا قامت بعملية استخباراتية كبيرة، عرفت باسم (القطار الحديدى)، تم خلالها إيصال (لينين) إلى (روسيا)، حتى يصبح القائد الملهم لثورتها ...ولقد رصدت المخابرات البريطانية عملية (القطار الحديدى) وأدركت أهمية أن تكون لها عيون فى قلب الأحداث، تنقل إليها أدق المعلومات والأسرار ... ومن خلال دراسة دقيقة، وقع الاختيار على (موم)، الذى سبق له زيارة (روسيا)، وحظى هناك باستقبال جيد، أشار إلى ثقة الكثيرين من الشعب الروسى به ... وعلى الرغم من عزم (موم)، عدم خوض الحرب على نحو مباشر، فقد استهوته الفكرة، عندما عرضها عليه مندوب المخابرات البريطانية، وعندما شرح له مسئول المكتب السادس البريطانى، انه من أقوى الامور، فى أية عملية استخباراتية، ان يكون العميل هو آخر شخص، يمكن أن يخطر على بال الطرف الآخر ... وقبل (موم) المهمة بشغف الروائى، وتم تدريبه على كل ما ينبغى للجاسوس معرفته والإلمام به، ليسافر بعدها إلى (بتروجراد) فى قلب (روسيا)، مع مهمة محدودة، ألا وهى جمع كل المعلومات الممكنة، حول إمكانية موافقة القيادة البلشفية، على عقد صلح منفرد مع (المانيا)، وهو ما نادى به الشعب الروسى، عقب ثورته، واستلام البلاشفة زمام حكم البلاد .... ولقد كان لشخصية (موم) أكبر الأثر، فى نجاح مهمته؛ إذ أنه بالإضافة إلى شخصيته الجذابة، ولباقة حديثه، كان قادراً على عقد عدد كبير من الصداقات، فى مجتمع (بتروجراد)، مستعيناً بشهرته، وبثقة الناس فيه، وعشقهم لرواياته ومسرحياته، التى تمت ترجمة عدد كبير منها، إلى اللغة الروسية ... ومن خلال علاقاته، علم (موم) أن الحزب الشيوعى، الذى آلت إليه السلطة، قد وافق على إتمام ذلك الصلح المنفرد، والانسحاب من الحرب فى ذروتها، وكانت له أهمية كبرى، فى إيصال تلك المعلومات المهمة إلى المخابرات البريطانية، التى رأت أن هذا الصلح المنفرد سيكون طعنة نجلاء للحلفاء، فى ذلك الوقت بالتحديد؛ إذ أنه سيساعد (المانيا) على تكثيف هجومها على باقى الدول، بعد ضمان حيادية الجبهة الروسية ... أيامها كان ذلك الضعف الرئوى لدى (موم)، قد تطوًَّر إلى سل رئوى حاد، صار عائقاً بينه وبين متابعة عمله، فى مجال الجاسوسية، لذا فقد تم سحبه من (روسيا)، وشن غارات كثيفة عليها، فى محاولة لمنع (لينين) من توقيع معاهدة السلام المنفردة، التى أطلق عليها اسم (ثورة السلام والخبز)، والتى تستهدف إيقاف نزيف الاقتصاد بسبب الحرب، وتوجيه الموارد إلى إشباع الشعب الروسى، الذى كان نقص الخبز هو أحد أهم أسباب ثورته ... ولكن الخطة البريطانية كلها فشلت، أمام إصرار الحزب الشيوعى على إنهاء حالة الحرب، وموافقة الشعب السوفيتى على هذا، وعقدت (روسيا) بالفعل صلحاً منفرداً مع (المانيا)، وإن كان هذا لم يمنع هزيمة (المانيا) أمام الحلفاء فى النهاية، وإجبارها على توقيع معاهدة (فرساى) المجحفة، التى نقضها (هتلر) فيما بعد ... وعقب خروجه من لعبة الجاسوسية، شعر (سومرست موم) فجأة بحالة فراغ كبيرة، شأن كل من يعمل فى هذا المضمار، الملىء بالمغامرة والإثارة، ثم يعود إلى الحياة العادية ....وعلى الرغم من انه قد صار الكاتب الاكثر شهرة ومبيعاً، فى ثلاثينات القرن العشرين، إبان صعود (هتلر) إلى السلطة، إلا أنه لم يستعد شعوره بالراحة، إلا عندما نشر تجربته فى عالم الجاسوسة، فى كتابه الذى نال شهرة واسعة، وحقًَّق مبيعات خرافية (كنت جاسوساً)، والذى نشر فيه تفاصيل عمله فى عالم الغموض، وربما كأوًَّل من يفعل هذا، ونشر حقائق كانت صدمة عنيفة للسوفيت، الذين فوجئوا بأن الكاتب الذى أولوه حبهم وثقتهم، كان جاسوساً بينهم، يعمل لحساب المخابرات البريطانية ... والعجيب ان تلك الشهرة الطاغية، وذلك النجاح المبهر، قد دفعا (موم) إلى تغيير اتجاهه الأدبى تماماً، حيث صارت معظم كتاباته إباحية ومبتذلة، مما أدًَّى إلى انحطاط قيمته الادبية، بحيث بقى كتابه (كنت جاسوساً) هو أقوى مؤلفاته على الإطلاق، حتى وفاته عام 1965 م، بعد أن شهد نهاية الحرب العالمية الثانية، وعودة (بريطانيا) إلى قوتها ...والكتابات عن عالم الجاسوسية عديدة وذات اتجاهات وزوايا مختلفة، وفقاً لطبيعة كاتبها، و...لهذا حديث آخر.