رغم كل ما يقال عن الغموض الذي أحيط بمقتل الفتي الأنيق فريدريكو غارسيا لوركا .إالا أن كل الروايات تؤكد أنه تم اعدامه في مبني تابع للاستخبارات الإسبانية بمدينة غرناطة التي جذبته حتي العشق بجمالياتها الاسلامية العريقة . فالسلطة الغاشمة للعسكر تحت قيادة الجنرال فرانكو لم تطق أشعاره ومحاضراته الملتهبة بلظي التوق الي الحرية والتي كان يلقيها في المدن الإسبانية ..فقررت أن تلوذ بالحل "الأسهل والشائع من وجهة نظر أي نظام قمعي" .. الاقصاء عن ..الحياة !! في أغسطس1936 انتشر خبر اعتقال لوركا .. ورافقه بعض اصدقائه إلي مكتب الحاكم المدني بمدينة غرناطة .. وبعد انتظار طويل،عادوا بدونه .. في الصباح داهمت الصحف العالم بالنبأ الصدمة .. لقد أعدم لوركا رميا بالرصاص ..والتفاصيل أن الفتي الأنيق انتزع في منتصف الليل من مكتب الحاكم المدني ليساق مع غيره من المعتقلين الذين تري السلطة الغاشمة أنهم خطر علي النظام بأحاديثهم عن الحرية الي منزل بمنطقة تسمي ينبوع العبرات ..وهناك حين أدرك مصيره قاوم جلاديه بشراسة ..لكنهم كانوا أقوي وأوفر عددا ومدججين بالسلاح فأمطروه بمئات الطلقات ..رغم أن طلقة واحدة تكفي ..! فلماذا أعدموا لوركا..؟ لم يرصد التاريخ الإسباني المعاصر أي مؤشر يشير باتجاهات سياسية للفتي الأنيق أو أنه انضم ذات يوم الي حزب سياسي معارض لسلطة العسكر ..أو شارك في تنظيم يهدف الي قلب نظام الحكم .. فلماذا أعدموه ..؟ ضُبط لوركا مرات عديدة وهو يتغني بأناشيد الحرية فرأت أجهزة الاستخبارات أن أشعاره تلك تمثل خطرا داهما علي النظام .. ولابد من معاقبته .. ورأت أن نفيه يتطلب توفير تذكرة سفر لإلقائه خارج الحدود ..أما سجنه فيعني توفير ثلاث وجبات غذاء له يوميا .. مما يمثل في الحالتين عبئا ماديا..والأرخص والأكثر حسما وحزما رميه بالرصاص ..! لكن هل اعدام لوركا كان الكلمة الفيصل في قصة العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة الغاشمة ! بل كلمته هي التي كانت الفيصل ..فقصائده ظلت في أفواه الإسبان الي أن نالوا حريتهم ..ومن يرصد المشهد الآن يدرك لوركا حيا وفي عنفوان الفارس المنتصر ..أما من أعدموه فرموه في مزبلة التاريخ . وحتي لو غابت بعض التفاصيل عن تصفية لوركا.. فالإطار العام للرواية لايختلف عليه الباحثون ..! الاستخبارات الإسبانية في زمن الجنرال فرانكو هي التي قامت باعدامه رميا بالرصاص .. كامو والمخابرات السوفيتية هذا القدر من الوضوح لم تحظ به أحداث أخري ذهب ضحيتها مثقفون ..مما ساعد علي تخليق رحم خصب للشائعات والروايات غير الموثقة حول دور أجهزة استخبارية في هذه الأحداث .. فرغم مرور نصف قرن علي مقتل الكاتب الفرنسي الكبير ألبير كامو الحاصل علي جائزة نوبل في حادث سيارة كما قيل آنذاك ..الا أن ثمة تقارير تنشر من حين لآخر ..تشكك في الرواية الأصلية التي عزت الوفاة الي اصطدام سيارته بشجرة .. أحدث هذه التقارير ذلك الذي نشرته صحيفة صحيفة كورييرا دي لا سيرا الإيطالية يوم 9 أغسطس الحالي .. وتوجه من خلاله الاتهام الي جهاز الاستخبارات السوفييتية بتدبير الحادث ..حيث تشير الصحيفة الي احتمال ضلوع جواسيس سوفيت في حادثة تحطم السيارة التي كان يستقلها الروائي الفرنسي "ألبير كامو" وارتطمت بإحدي الأشجار وأودت بحياته ..الصحيفة اتهمت المخابرات السوفيتية بالتلاعب في إطارات السيارة التي استقلها كامو مع صديقه وناشر أعماله ميشيل جاليمار صاحب دار نشر "جاليمار" انتقاما منه علي انتقاد حملة القمع التي قامت بها موسكو ضد الانتفاضة المجرية في الخمسينات. المعروف أن كامو كان سيستقل القطار من مدينة بروفانس عائدا إلي باريس مع زوجته فرانسين وابنتيهما التوأم كاثرين وجان إلا أن صديقه جاليمار اقترح عليه العودة بالسيارة .. ووقع الحادث حين انفجر أحد الإطارات فانحرفت السيارة وارتطمت بإحدي الأشجار ليموت كامو في الحال ويلحق به صديقه جاليمار بعد أيام قليلة متأثرا بجروحه. الصحيفة اعتمدت في روايتها علي ما قاله الشاعر والأكاديمي الإيطالي "جيوفاني كاتيللي" الذي أشار إلي مقطع مفقود من مذكرات الشاعر التشيكي "جان زابارانا"، ويقول فيه زابارنا إنه سمع شيئا غريبا من شخص نافذ في الأوساط الإستخباراتية السوفييتية وهو أن حادثة السيارة التي كلفت كامو حياته في عام 1960 كان وراءها جواسيس سوفيت قاموا بالتلاعب بإطارات السيارة مستخدمين معدات متطورة لقطع أو إحداث فجوة في الإطار عند انطلاق السيارة بسرعة عالية. يكشف "زابارنا" في مذكراته عن أن وزير الخارجية الروسي "ديمتري شبيلوف" هو من أعطي الأمر شخصيا باغتيال كامو كرد فعل علي مقال نشره في إحدي المجلات الفرنسية في مارس من عام 1957 ينتقد فيه دور شبيلوف في أحداث المجر التي أطلق عليها كامو "مجازر شيبيلوف" وهي الأحداث التي أرسلت فيها موسكو قوات سوفيتية لقمع الانتفاضة المجرية في عام 1956 . قد أغضب كامو السوفييت مرة أخري بعد أن أعلن علي الملأ تضامنه مع الكاتب الروسي "بوريس باسترناك" مؤلف رواية "دكتور زيفاجو" والحاصل علي نوبل للآداب والذي منع ستالين أعماله. .والمعروف أن باسترناك أجبر علي التصريح لأجهزة الاعلام بأنه يرفض الجائزة . الا أن مراسل هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" السابق بباريس "أوليفير تود" والذي كتب سيرة حياة كامو ونشرت بالإنجليزية عام 2000 تحت عنوان "حياة"، يقول إنه لم يجد أي إشارة خلال بحثه لضلوع السوفييت في المسألة ولكنه أقر بأن السوفيت قد استخدموا التشيكيين في القيام بأعمالهم القذرة وأنهم لا يتورعون عن فعل شيء إلا أنه لا يثق في القصة ولا يصدقها حتي الآن. مثل هذه التقارير تجد أذانا صاغية أكثر لدي هؤلاء الذين يميلون الي نظرية المؤامرة ..خاصة أنه لايوجد حتي الآن دليل واحد يدين الاستخبارات السوفيتية ..وهذا لايعني أن مثل هذه المهام بعيدة عن خطط أجهزة المخابرات .. فالكثير من الأجهزة الاستخباراتية العالمية لديها فرق مدربة جيدا علي ما يبند ضمن " الأعمال القذرة " دفعوه إلي الانتحار ربما كان مقتل الكاتب الأمريكي الشهير أرنست همنجواي احدي هذه " المهام القذرة " التي قام بها مكتب التحقيقات الفيدرالي ففي مقال نشر بصحيفة نيويورك تايمز مؤخرا يقدم أي هوتشنر- وكان صديقا لهمنجواي تفسيرا لما حدث في ذلك الصباح القائظ من عام 1962 حيث يلقي هوتشنر بالتهمة علي إدجار هوفر.. رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية "إف بي أي"..الذي فرض رقابة مشددة علي همنجواي ولاحقه رجاله أينما ذهب ..ووضعت هواتفه تحت المراقبة ..ذلك ان هوفر كان متشككا في علاقات الروائي الأمريكي الكبير بنظام فيدل كاسترو في كوبا ..وكان همنجواي لايكف عن التردد علي كوبا منذ اواسط الثلاثينات ..الي أن أقام بها اقامة كاملة في عام 1961..في الوقت الذي تشعر فيه الولاياتالمتحدة ت بقلق بالغ تجاه نظام كاسترو الشيوعي وتحالفه مع الاتحاد السوفييتي ..وقد أورد هوتشنر في مقاله حديثاً بينه وبين همنجواي أعرب فيه الأخير عن انزعاجه من الجحيم الذي يعيش فيه بملاحقة عناصر ال "إف بي أي " له .. ويري هوتشنر ان مطاردة رجال "اف بي آي " لصديقه كانت سببا في إقدامه علي الانتحار. نلعنهم أم نمجدهم ! هكذا هي العلاقة بين المثقف والأجهزة الاستخباراتية ..!عداء الي حد التصفية الجسدية ؟ بل علي النقيض من ذلك هناك نموذج جراهام جرين ..الكاتب البريطاني الشهير الذي تبين أنه كان صديقا لمخابرات بلاده ..وأسدي لها خدمات جليلة ..حين كان في سيراليون ..ونموذج سومرست موم الذي كلفته جهاز الاستخبارات البريطاني بمهمة في موسكو مع اشتعال الثورة البلشفية في أكتوبر عام 1917 ..انها نماذج لوجه آخر محير للعلاقة بين المثقف وأجهزة المخابرات ..جدير بالخوض فيه للوصول الي أدلة ..هذه المرة ليس لإدانة الأجهزة الاستخباراتية بل للمثقف .. ..وربما براءته ..بل تمجيده ان وافقنا علي أن مايقوم به حين يضع نفسه تحت تصرف مخابرات بلاده سلوك وطني رفيع ! وهذا ما يؤكده البروفيسور كيت جيفري في كتابه "التاريخ السري ل مي - 6 وهو الكتاب الذي استمد المؤلف مادته من الأرشيف السري للمخابرات البريطانية.. بل إن الكاتب سومرست موم زار موسكو بناء علي طلب من المخابرات البريطانية وكتب عن هذه الزيارة تقريرا يشير فيه الي ضعف كيرنيسكي وقوة البلاشفة .. كما جندت المخابرات البريطانية الصحفي ارثر رينس.. حيث نجح في اقامة علاقات جيدة مع قادة البلاشفة ومن ضمنهم لينين.. وقد تزوج رينس من السكرتيرة الشخصية لتروتسكي واخذها معه الي بريطانية. بالمر الخائن ! فهل هذا بالعمل المشين ؟ أن يعمل المثقف في خدمة مخابرات بلاده ..؟ بعض المثقفين يرون أن تعاونهم مع الأجهزة الاستخباراتية لبلادهم يصنف كعمل وطني ..من منطلق أنهم لايقومون بمهام محلية تتعلق مثلا بالتجسس علي مواطنيهم ان كانوا معارضين للنظام ..بل يؤدون خدمات تفيد بلادهم في حماية أمنها القومي إزاء تحديات ومخاطر خارجية ..وهم يتصرفون في هذا الشأن من منطلق انتمائهم الوطني ..الا أن فريقا آخر من المثقفين يرون أن نشاطا مثل هذا يعد انزلاقا للمثقف في وحل العمالة حتي لو كان لحساب بلاده ..! خاصة لو كان ثمة مقابل ..ويمكن تبنيد النشاط التجسسي الذي قام به المستشرق الانجليزي ادوارد هنري بالمر .. كان بالمر أستاذا للغة العربية في جامعة كمبردج البريطانية .. وقد زار مصر عام 1869 .. تعلم اللغة العربية بل واللهجات العامية.. زار سيناء .. وأقام علاقات صداقة قوية مع أهلها .. أكل من طعامهم وارتدي زيهم .. وأسموه الشيخ عبدالله .. وكان يسمعهم الشعر العربي فيطربون له .. ويقول في مذكراته انه أكل معهم الخبز واللحم .. وتعاهد معهم علي أن يحمي كل منهم الآخر حتي الموت ! .. ويقول بالمر في مذكراته انه تلقي دعوة من إدارة المخابرات الانجليزية لتناول الافطار مع وزير البحرية الذي طلب منه القيام بمهمة تجسس في سيناء المصرية .. وكانت المهمة المطلوبة من بالمر أن يستثمر علاقاته الجيدة بأهل سيناء في تحريضهم علي الحكومة المصرية .. والعمل لصالح الجيش الانجليزي الذي يستعد لغزو مصر بعد اسبوعين .. وعرض الوزير علي المثقف بالمر خمسمائة جنيه استرليني كدفعة أولي .. علي أن يتم منحه ثلاثة آلاف جنيه عندما تنتهي المهمة .. المثير للدهشة أن الوزير استخدم في حواره مع المثقف بالمر .. كلمة جاسوس .. " إنك ستقوم بدور الجاسوس .. " !! هذا ما جاء في مذكرات بالمر .. وقبل بالمر المثقف والمستشرق العظيم أن يكون جاسوسا علي أناس أكل من خبزهم وشرب من مائهم.. إلا أن ما لم يكتبه بالمر في مذكراته الفصل الأخير من قصته .. هذا الفصل سطره المؤرخون ..حيث توجه بالمر إلي المنطقة وبرفقته ضابطين بريطانيين .. جزء من المهمة كان ايضا قطع خطوط التلغراف للحيلولة دون اتصال قائد الجيش المصري أحمد عرابي بأي جهات خارجية لمساعدة مصر في التصدي لقوات الغزو ، ولقد عرف محافظ مدينة نخل في سيناء بأمر مهمة بالمر التجسسية .. فاتفق مع البدو بأسر بالمر وصاحبيه .. وبالفعل تم أسرهم وإعدامهم رميا بالرصاص ..وهذا حدث من ألاف الأحداث التاريخية التي تنم عن مدي عمق الانتماء الوطني لأهالي سيناء..!