إنهم يعيشون فى أزمة.. وفى نفس الوقت هم أحد أسباب الأزمة. الشرطة تطاردهم وتتعقبهم كالمجرمين والجمهور يتعامل معهم.. وأصحاب الدكاكين وسكان العمارات يكتبون فيهم الشكاوى والعرائظ. إنهم 250 ألف بائع جائل.. يهيمون على وجوههم فى شوارع القاهرة. ليس لهم حاضر ولا مستقبل فربح اليوم دين يؤدى للتجار الكبار فى الغد.. والغرامات والحبس الاحتياطى تلهب ظهورهم وتشل نشاطهم. وأول أسباب هذه المشكلة يرجع إلى الهجرة من الريف إلى القاهرة.. والهجرة قصة ترجع لعدة سنوات مضت عندما كانت القاهرة معملاً كبيراً لتخريج الموظفين الذين تحتاج إليهم دواوين الحكومة المتمركزة فيها وكان هذا سبباً كافياً لهجرة الكثيرين إليها. وبعد أن افتتحت الجامعة وتقررت المجانية فى جميع مراحل التعليم ساعد هذا على زحف جحافل ضخمة من طول البلاد وعرضها إلى القاهرة طلباً للعلم أو بحثاً عن الوظيفة. والإحصائيات الرسمية تقول إن 75% من عدد الوافدين إلى القاهرة رفضوا العودة إلى بلادهم وفضلوا البقاء فى العاصمة. كما هاجر عدد كبير من فلاحى الصعيد للعمل فى بناء العمارات التى انبثقت فى كل مكان بالقاهرة لتستوعب هؤلاء الوافدين وأسرهم. والحرب العالمية الثانية كانت سبباً آخر للهجرة وبعد أن انتهت قذفت المعسكرات بألوف من العمال إلى الشارع.. وبدأت حركة العمران تتناقص بعد أن انتهى أثرياء الحرب من استغلال أموالهم فى بناء العمارات. وكانت الأزمة.. آلاف من العمال المعطلين غير المؤهلين مما أدى إلى صعوبة توظيفهم بالمؤسسات والشركات والمصانع. وكانت أسهل الطرق لكسب العيش أن يتحول هؤلاء إلى باعة متجولين. وأول قانون صدر لتنظيم مهنة الباعة الجائلين كان سببه إزعاج بائع اللبن لمحافظ القاهرة الإنجليزى الذى كان يسكن فى الزمالك، وصدر القانون رقم 66 لعام 1942 وأهم ما جاء فيه. l منع الباعة الجائلين من المرور فى بعض الشوارع والأحياء وأولها حى الزمالك. l لا يسمح لأى شخص يبيع سلعة فى الطريق العام مالم يحصل على رخصة من محافظ القاهرة. l لا يجوز للبائع الجائل أن يبيع سلعة بجوار محل يبيع نفس السلعة. l تسحب الرخصة من البائع الجائل متى رأى البوليس ذلك. وعندما قامت الثورة فى 23 يوليو سمح للباعة الجائلين بتكوين رابطة تدافع عن مصالحهم وترعى شئونهم. وبالفعل تكونت أول رابطة للباعة الجائلين عام 1952 وتوصلت إلى إلغاء بعض البنود الجائرة كسحب الرخص. كما صدرت عدة قرارات وزارية فى أعوام 58، 59، 60 وأخيراً القرار رقم 97 لعام 1961 وكلها قرارات تعدل بعضها البعض وكلها محاولات لعلاج أزمة الباعة الجائلين وكان من أهم القرارات: l تكوين لجان للبت فى التراخيص مكونة من مستشار من مجلس الدولة وقائد شرطة البلدية ومراقب عام التنظيم وعضو من اللجنة الصحية وعضو من الاتحاد القومى ومندوب من رابطة الباعة الجائلين. l تكوين لجنة لتحديد أسواق ثابتة يقف فيها الباعة مكونة من نفس الأعضاء السابقين بالإضافة إلى مندوب عن إدارة المرور. l يجب أن يكون البائع خالياً من الأمراض ويحسن معاملة الجمهور. l لا يسمح بتجديد رخصة البائع المتهم بالغش التجارى قبل مضى سنة. ورغم هذه القرارات فإن المشكلة كما هى يشكوا الباعة من الغرامات ومطاردة الشرطة وشكواهم لم تنقطع. ويقول أحد وكلاء النيابة إن عدد الذين يقبض عليهم يومياً من الباعة المتجولين لا يقل عن 25 بائعاً فى دائرته وحدها، والسبب أنهم لا يستخرجون رخصا ويضطرون إلى تغيير أسمائهم هرباً من المحاكمة ولكنهم يقعون فى مأزق آخر وهو أن تغيير الأسماء يعتبر تزويرا فى أوراق رسمية. وأخيراً.. لقد قال الرئيس جمال عبد الناصر فى اجتماع اللجنة التحضيرية إن العسكرى يرهب البائع المتجول ويصحبه إلى القسم ولكن البائع المتجول إذا ارتدى زى العسكرى فإنه سيقوم بنفس العمل. فكيف يمكن أن نجعل العسكرى يعيش فى سلام مع البائع المتجول؟!.. ثم كيف نحل مشكلة هذا العدد الضخم من المواطنين.. الذين يحاولون انتزاع لقمة العيش بطريق شريف؟!