أخذت القارة الأفريقية تكتسب بعداً استراتيجياً متزايداً فى السنوات القليلة الماضية على الرغم من التهميش والإبعاد الذى عانت منه طوال العقود السابقة خاصة بعد رحيل الاستعمار الأوروبى فى منتصف وأواخر القرن الماضى، إلا أنه وبنهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة ظهر نمط جديد من الصراع على القارة الأفريقية تميز بدخول الصين والهند واليابان حلبته بقوة، إلى جانب الولاياتالمتحدة وحليفتها إسرائيل فضلاً عن القوى الأوروبية التقليدية إضافة لإيران وتركيا بوصفهما قوى إقليمية صاعدة.* موارد أفريقيا ضخمة ولكنها لم تستثمر * القارة السمراء تستحوذ على 10% من مصادر المياه العذبة فى العالم مما يجنبها معاناة الجفاف...الأمر الذى يشير بدخول هذه القارة مرحلة جديدة تتحول فيها لنقطة جذب ومسرح عمليات وساحة صراع على النفوذ والنفط والثروات والتوازنات الإستراتيجية بين القوى الدولية والإقليمية الساعية للاستحواذ على القسم الأعظم من موارد وثروات القارة الأفريقية بمعادنها ونفطها وأرضها ومياهها وموقعها الجغرافى، بينما يضرب الجوع والفقر والمرض قطاعات واسعة من شعوبها. ولعل ما يتبادر للأذهان التساؤل عن ماهية أسباب ودوافع التنافس الدولى على تلك القارة، وبحكم موقعى السابق كمسئول عن إدارة ملف الدول والمنظمات الأفريقية بالتمثيل التجارى طوال السنوات الثلاث السابقة، ومن واقع قراءاتى المتخصصة يمكن رصد ما يلى، حيث سنتناول فى مقال قادم بمشيئة الله استراتيجيات أهم القوى الدولية فى أفريقيا: - تُعدْ القارة الأفريقية ثانى أكبر قارات العالم بعد آسيا، بمساحة تبلغ 30.2 مليون كم2 تشكل حوالى 20% من مساحة يابسة الكرة الأرضية، وبتعداد سكانى حوالى مليار نسمة يمثل حوالى 17% من مجمل سكان العالم، كما تتمتع بثروات طبيعية وموارد ضخمة غير مستثمرة بالشكل المثالى فى معظمها. - تكتسب القارة الأفريقية أهميتها القصوى لكثرة الموارد الطبيعية والمواد الأولية والمعادن النادرة التى حباها الله بها والتى تُعدْ بمثابة الركائز الرئيسية لاشتداد عوامل التنافس بين القوى الكبرى والدول المستهلكة لهذه الموارد إثر ازدياد الطلب العالمى وتقلص نسبة الاحتياطيات العالمية ومعدلات الإنتاج فى أماكن ومناطق أخرى من العالم. - نعرض فيما يلى لأهم عناصر ومكونات الموارد الطبيعية التى تتمتع بها دول القارة الأفريقية ومغريات التنافس الدولى والتى تمثل أسس جذب وتصارع كافة القوى الدولية للاستئثار بتلك الموارد: - تضم القارة حوالى 10% من احتياطى النفط العالمى المكتشف ويتركز معظمه وبنسبة 60% فى ثلاث دول رئيسية نيجيريا والجزائر وليبيا، فى حين تبلغ احتياطيات الغاز المكتشفة فى القارة حوالى 8% من نسبة الاحتياطيات العالمية يتوزع أكثر من 75% من هذه النسبة فى ثلاث دول هى نيجيريا والجزائر ومصر. - من مميزات النفط والغاز الأفريقى سهولة استخراجه نسبياً وسهولة تسويقه أيضاً بسبب موقع القارة الاستراتيجى بين قارات العالم من جهة وبسبب تركز كميات كبيرة من النفط على السواحل أو فى المياه الإقليمية لدولها , وعلى الرغم من أن نسبة الاحتياطيات المكتشفة فى القارة متواضعة نسبياً مقارنة بنظيرتها فى الشرق الأوسط إلا أن بعض الجهات الدولية تشير لوجود العديد من المناطق غير مكتشفة إلى الآن والتى يمكن أن تحوى كميات كبيرة من النفط والغاز بشكل يجعل من القارة الملجأ الأخير غير المستنفذ نفطياً خاصة وأن قدرات الإنتاج فى العديد من دول القارة لم تصل لطاقتها القصوى. - بالنسبة للطاقة فإنها تشهد معالم نزاعات واضحة وتنافس شرس بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين , حيث تتضح أهم معالمه فى السودان، مع مخافة تطور هذا النزاع مستقبلاً ليتحول إلى صراع ينتقل من السودان لدول مثل نيجيريا وأنجولا والجزائر وغينيا الاستوائية والجابون وتشاد والكونجو وكلها دول ذات أهمية نفطية عالية بالنسبة للصين وأمريكا فى القارة الأفريقية. - نظرًا لأن السياسة الاقتصادية للصين تستهدف الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة خوفاً من التداعيات الاجتماعية والسياسية التى من الممكن أن تحدث فيما لو تدنت هذه المعدلات أو توقّف النمو، فإن ذلك يتطلب استهلاك كميات كبيرة من الطاقة، الأمر الذى يجعل من الصين ثانى أكبر مستهلك للنفط فى العالم، ومما يؤكد ذلك توقعات الوكالة الدولية للطاقة بزيادة واردات الصين النفطية لتصل إلى 13.1 مليون برميل / يوم بحلول عام 2030 , ونظراً لأن حوالى 30% من واردات نفط الصين تأتى من أفريقيا، فإن ذلك يستدعى قوة التواجد الصينى فى أفريقيا لتأمين احتياجاتها المتزايدة من النفط بشكل يستوجب الكشف عن أماكن جديدة لإنتاج النفط واستخراجه بالعديد من الدول الأفريقية. - فيما يتعلق بالولاياتالمتحدةالأمريكية فإنها تُعد أكبر مستهلك ومستورد للنفط فى العالم حيث يعتبر النفط بالنسبة لها عنصراً غير قابل للمساومة فأينما يوجد نفط توجد الولاياتالمتحدةالأمريكية ونظراً لأن الواردات النفطية الأمريكية من أفريقيا تصل لحوالى 20% من وارداتها النفطية بما يوازى تقريباً وارداتها من دول الشرق الأوسط بل ومن المتوقع إرتفاع النسبة لتصل 25% خلال الفترة القصيرة المقبلة فإن ملف النفط الأفريقى الأمريكى يدخل بؤرة السياسة الأمنية للطاقة الأمريكية مما يستوجب ضرورة حماية مصادر الإنتاج النفطى خاصة فى الدول التى تعانى من عدم استقرار سياسى، وبما يضمن تصدير النفط ووصوله للولايات المتحدة دون أى عرقلة أو ابتزاز مما يُعدْ أيضاً خطوة على طريق تقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط عبر سياسة تعدد وتنوع مصادر الواردات الجغرافية وأنواع الطاقة. الموارد الطبيعية والأولية - تعتبر أفريقيا منجماً ضخماً ينتج حوالى 80% من بلاتين العالم، وأكثر من 40% من الألماس و20% من الذهب والكوبالت واليورانيوم. - يُعدْ هذا الملف مرتكزاً لتنافس شرس وقوى بين كل من الصين وروسيا فالصين أكبر مستهلك ومستورد للموارد الطبيعية والأولية كالحديد والألمنيوم والنحاس...الخ بينما روسيا من أكبر المستثمرين فى القطاعات الحيوية فى أفريقيا فعلى سبيل المثال فقد استثمرت أكبر أربع شركات روسية للحديد بين أعوام 2004 و 2007 أكثر من خمسة مليارات دولار فى منطقة الصحارى الأفريقية وحدها. - قد يبقى الأمر محصوراً فى الإطار التنافسى إذا التزم البعد التجارى لمضمونه ولم يتعداه لأهداف أخرى كالسيطرة على الموارد الطبيعية والأولية بغية التحكم فيها حيث يمكن فى هذه الحالة تحول التنافس إلى نزاع إذا ما تعداه لموارد الطاقة والنفط وقد تدخل الولاياتالمتحدةالأمريكية كطرف فى هذا الصراع. السلاح والأمن - تبرز أهمية النزاع بين روسيا وأمريكا على أسواق مشتريات السلاح الأفريقية من واقع أن القارة الأفريقية تضم بمفردها أكثر من 40% من النزاعات المسلحة التى تحدث سنوياً، تتوزع على أكثر من 20 دولة فى القارة. - تشير التقديرات إلى أن تكلفة النزاعات المسلحة على التنمية الأفريقية تبلغ المئات من مليارات الدولارات، وأن النزاعات المسلحة نتج عنها تراجع نمو الاقتصاد الأفريقى بنسبة 15% وخسائر سنوية بحوالى 18 مليار دولار، كان من الممكن استخدامها فى مكافحة الأمراض المتوطنة والفقر والجهل. - تُعدْ روسيا ثانى أكبر مصدر للسلاح فى العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث زادت صادراتها للعالم من السلاح بنسبة 14% لتسجل رقماً قياسياً بلغ 8.35 مليار دولار عام 2008، كما تضاعفت الصادرات العسكرية الروسية لدول القارة الأفريقية بنسبة 200% خلال السنوات الأربع الأخيرة حيث يأتى ذلك فى إطار الاستراتيجية الروسية لاستعادة نفوذها فى أفريقيا خاصة فى ظل سياسة تقليص مبيعات الأسلحة الأمريكية والأوروبية لتلك الدول لأسباب سياسية. - تشكل مبيعات الأسلحة الروسية مدخلاً لتعميق العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية بشكل يسمح لرجال الأعمال والمؤسسات الروسية للاستثمار والحصول على مزايا تفضيلية فى هذه الدول فى مجالات البنى التحتية والقطاعات الاستراتيجية الحيوية مما يمهد لنقل المساعدة التكنولوجية كالطاقة النووية. - لا شك أن سياسة مبيعات الأسلحة الروسية فى دول القارة الأفريقية تزعج كثيراً الولاياتالمتحدةالأمريكية , حيث ترى أنها يمكن أن تؤدى لإشعال النزاعات بشكل يقوض الأمن والاستقرار السياسى والاجتماعى والاقتصادى لدول القارة مما يضر بالمصالح الأمريكية الحيوية فى إطار سياستها لتنويع وتعدد مصادر الطاقة وأمن الممرات المائية وأمن طرق النقل كما أن السياسة الروسية قد تؤدى لتدعيم الأنظمة الفاسدة، مما سيحتم على الولاياتالمتحدةالأمريكية اتخاذ خطوات عملية لدعم وتعزيز تواجدها العسكرى فى العديد من دول القارة وفى هذا الصدد أيضاً لا يمكن إغفال النفوذ الصينى المتعاظم بدول القارة الأفريقية. وتشير التقديرات إلى أن القارة تمتلك حوالى 4 آلاف كم3 من مصادر المياه العذبة المتجددة سنوياً، بما يوازى حوالى 10% من مصادر المياه العذبة المتجددة فى العالم، حيث تُعد هذه النسبة ممتازة قياساً بالمعاناة التى تعيشها دول أخرى فى كثير من مناطق العالم.