أعتقد أنهم لو عملوا جنازة افتراضية لتشييع الجنيه المصرى إلى مثواه الأخير، فلا أستبعد أن يكون محافظ البنك المركزى وأعضاء مجلس إدارته فى مقدمة المشيعين؛ عملاً بالمثل الشعبى المعروف: يقتلوا القتيل ويمشوا فى جنازته! ولا أستبعد بالطبع أن يمشى فى الجنازة كبار المسئولين والمحتكرين والتجار الذين ساهموا بشكل أو بآخر فى النزول بقيمة الجنيه إلى أسفل السافلين، حتى أصبحت قيمته أقل قليلاً من قيمة ورقة “الكلينكس”.. لامؤاخذة..!! وقد يكون من الضرورى أن أؤكد من البداية أن هذا الكلام لا علاقة له بشخص أستاذنا د. فاروق العقدة محافظ البنك المركزى، بل بسياساته وسياسات البنك الذى يرأسه؛ فالدكتور فاروق العقدة، لمن لا يعرف، قيمة وقامة ومصرفى محترم وهو فوق كل هذا وذاك أحد المقاتلين الشجعان فى حرب أكتوبر المجيدة التى أعادت لمصر عزتها وكرامتها وأرضها المسلوبة.. هذه الكلمة كانت ضرورية قبل أن أقول إن البنك المركزى ساهم بسياساته الخاطئة فى تهميش الجنيه المصرى، ولم يقم بدوره المطلوب على مدى السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة فى الحد من معدلات التضخم واللعب بأدوات السياسة النقدية للسيطرة على هذه المعدلات المنفلتة.. فالبنك بخفض أسعار الفائدة أولاً ثم تثبيتها للمرة السابعة عشرة على التوالى ساعد على خفض معدلات الإدخار، وساهم فى ارتفاع معدلات التضخم لمستويات غير مسبوقة، وتآكل قيمة ودائع البنوك نتيجة للفجوة الهائلة بين أسعار الفائدة ومعدلات التضخم..! يعنى ببساطة؛ أن المودع الصغير يتوهم أنه بادخاره يقوم بتنمية تحويشة عمره، لكنه يكتشف فى النهاية أنه واهم لأن قيمة هذه التحويشة تآكلت حتى لم تعد تصلح لشراء أية سلعة استثمارية أو حتى استهلاكية من السيارة، إلى المش والجعضيض، بالضاد أو الدال، وهو أرخص أنواع الخضراوات على الإطلاق..! وما دفعنى للحديث فى هذه القضية هو أن الناس لا هم لهم الآن إلا أمرين أساسيين هما: ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة وغياب الأمن..! وإذا كان غياب الأمن يحتاج لجهود طويلة قد تستغرق بعض الوقت، إلا أن ارتفاع الأسعار يمكن السيطرة عليه فى زمن أقل نسبياً، ليس بقرارات فوقية من المكاتب المكيفة للحكومة ووزراء الحكومة بفرض تسعيرة لكل شىء، لكن بقرارات حقيقية تتماشى مع آليات السوق. وفى تقديرى أن قرار رفع أسعار الفائدة هو من نوعية هذه القرارات الحقيقية فقد أصبح قراراً حتمياً اتخاذه بالنظر إلى عدد من الأمور أولها وأهمها: أن البنوك تعانى من نقص حاد فى السيولة، وبدأت تتنافس على جذب الزبائن أصحاب الودائع الضخمة بأسعار فائدة مغرية مرتفعة، لا علاقة لها بالأسعار التأشيرية التى تضعها لجنة سياسات البنك المركزى. فالبنوك وجدت أنها يجب أن تحل مشاكلها بعيداً عن قرارات البنك المركزى التى تخالف الواقع، والتى يعيش أصحابها فى برج عاجى بعيداً عن أوضاع الاقتصاد المصرى وظروف المجتمع.. الأمر الثانى أنه من غير المعقول أن تستمر الفجوة الهائلة بين أسعار الفائدة على الودائع ومعدلات التضخم، لأن هذا معناه، كما أسلفنا من قبل، تآكل قيمة الودائع. كما أعتقد أنه ليس من المقبول، وهذا هو الأمر الثالث، فى ظل أزمة نقص السيولة الحاد فى السوق المصرية أن يقوم البنك المركزى بالاستمرار فى سياسته الغريبة بتثبيت سعر الفائدة، بحجة أن ذلك يساعد على خفض تكلفة الإنتاج ويزيد الإقبال على الاستثمار. فمثل هذا الكلام مردود عليه، فمن المعروف أن قرار أى مستثمر بالاستثمار فى دولة ما لا يعتمد وحده على سعر الإقراض.. فقد يكون سعر الإقراض منخفضاً، لكن مقومات الدولة أو ظروفها السياسية لا تشجع على الاستثمار، كما أن حوافز الاستثمار، فى دولة ما، قد تكون أجدى وأنفع للمستثمر من خفض سعر الفائدة.. والغريب أنه فى ظل سياسة تحرير أسعار الفائدة، وحرية كل بنك فى تحديد السعر الذى يريد، كانت البنوك تلجأ لحيلة غبية وهى خفض سعر الفائدة على الودائع، ورفع أسعار الفائدة على القروض، بل إنها فى حالات عديدة تمتنع عن إقراض العديد من المشروعات التى تجد أنها شديدة المخاطر، كالمشروعات السياحية وبعض الصناعات، خاصة الصغيرة وغيرها.. ومعظم البنوك تستسهل حالياً التعامل فى التجزئة المصرفية، والتى لا تساعد على بناء اقتصاد دولة، لكنها تزيد من الاستهلاك الترفى والرفاهى للمجتمع.. وهو عكس ما كانت تفعله البنوك زمان، خاصة بنك مصر، الذى بنى اقتصاد مصر فى فترة الأزمة الاقتصادية العالمية، وأقام العديد من الشركات فى مختلف المجالات فى السياحة والسينما، والطيران والغزل والنسيج والصناعة وغيرها وغيرها.. إننى أتمنى أن يعيد البنك المركزى النظر فى سياساته.. وأن يكون يوم 27 نوفمبر الحالى بداية للتغيير المنتظر فى هذه السياسات، وهو موعد آخر اجتماع للجنة السياسات النقدية بالبنك، وألا يقتصر جدول أعمال الاجتماع على النظر فى أسعار الفائدة التأشيرية فقط، بل يجب أن يتطرق الاجتماع لما هو أهم وأشمل وأعم، وهو كيفية مساهمة البنك فى الخروج من المأزق الاقتصادى الراهن الذى تعيشه مصر كلها، وهذا بالمناسبة ليس دوراً مفتعلاً ولا جديداً على البنك؛ لأنه بحكم قانونه بنك البنوك وأبوها، ومستشار الحكومة، الذى يجب أن يحدد لها، أى الحكومة، ما يجب عليها اتخاذه، وما لا يجب، فى هذه المرحلة الحاسمة فى تاريخ مصر.. حمى الله مصر وشعب مصر.