لا أعتقد أن فرداً واحداً من جيلنا لم يقرأ «أنيس منصور» ولم يقع أسير اسلوبه الساحر السلس، كما أن جيلنا بأكمله مدين له بدخول ذلك العالم المدهش، دنيا القراءة والكتابة، دخَلَتْ مجلة «أكتوبر» بيتنا مع عددها الأول الذى حمل صورة الرئيس «السادات»، ودخل معها «أنيس منصور» بمقالاته الممتعة، بدون أدنى مبالغة فإننى قرأت لأول مرة أسماء الكثير من الأدباء والمفكرين فى الغرب والشرق فى مقالات «أنيس منصور». هل هو أسلوبه الذى يبدو بسيطاً مع أنه نتيجة لجهد هائل؟ أم أنه التنوع الكبير فى الموضوعات من المقال السياسى إلى سلسلة «القوى الخفية التى فى أعماقك وأنت لا تدرى» إلى السلسلة الأدبية المذهلة «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» إلى حواراته التى لا تُنسى مع السادات؟، كل ذلك بالتأكيد جحلة مع مجموعة قليلة من كبار الصحفيين، نموذجًا نحاول أن نحتذى به، ونجتهد فى أن نكون مثله، ونصيحته الذهبية منقوشة أمامنا «القراءة مفتاح المعرفة». من الصحافة انتقلنا معه إلة الكتب، هناك ظاهرة غريبة جداً هى أنه قد يكرر الكثير من الأفكار التى تؤرقه فى كتاباته، ولكنك لا?تستطيع أبداً أن تترك كتاباً يحمل اسم «أنيس منصور» قبل أن تنهيه، لا حظت أيضاً أن هذا الأمر ينطبق على حواراته التليفزيونية، مهما كانت ثقافة المذيع أو المذيعة أو المحاور فإن «أنيس منصور» يلتقط خيط الحديث ليقول ما يريد، فى أحد حواراته الأخيرة منذ شهور، اندهشتُ لأننى جلست اكثر من ساعة ونصف الساعة أمام «أنيس منصور» وهو يحكى قصصاً سمعتها وقرأتها منه عشرات المرات سواء فى كتب أو مقالات أو فى برامج سابقة، ما هو السر؟ السر فى أن الفنان داخل هذا الكاتب الكبير كان حاضراً باستمرار، هذا الفنان هو الذى يُعيد بناء حكاياته فى شكل وصورة جديدة، كان هو أيضاً شديد الاعتزاز بميوله الفنية والغنائية التى جعلته يقوم بالغناء بالافراح ويحلم بالحصول على الاعتراف من «محمد عبد الوهاب»، كان «أنيس منصور» يسعد جداً كلما تحولت له قصة إلى مسلسل تليفزيونى مثل حلقات «من الذى لا يحب فاطمة»، أو كلما عرض التليفزيون مسرحيته المعروفة «حلمك ياشيخ علام»، ظل الفنان بداخله يتحاور مع الفيلسوف والمفكر دون أن يهزم أحد منهما الآخر، بل أصبح لدينا هذا المزيج الفريد، كسبنا صاحب المفاتيح السحرية التى فتحت لنا كل الأبواب. لولا هذه الذائقة الفنية الرفيعة لما كانت لكتاباته هذه الهالة السحرية، كثيرون يكتبون عن الفلسفة والأدب والغناء والشعر والسياسة والغرائب والعجائب والأفكار والأمصار، وينسون بصمة الفن والفنان، فلا?يتركون ما ترك استاذنا الراحل الكبير رحمه الله الفنان الذى ألقى بنا فى بحر الحياة على متن سفينه من الحروف والكلمات.