المتابع للمشهد السياسى الراهن يستطيع أن يلحظ بوضوح نشوء دولة اسمها “ميدان التحرير”.. وهى تضم خليطا “عشوائيا” غريباً من الثوار الحقيقيين ومن مدّعى الثورة.. وفلول النظام السابق، والحزب الوطنى المنحل، وبعض الدخلاء مجهولى الهوية، الذين يهيّجون الجماهير ضد الحكومة وضد المجلس العسكرى والجيش، بل يحرّضون جهاراً نهاراً وفى كل مناسبة على الصدام مع الجيش.. و حتى يكتمل المشهد.. ينضم لهذا الخليط الغريب العجيب.. باعة البطاطا والترمس.. واللب والسودانى.. وباعة الأعلام والطراطير.. وتتناثر هنا وهناك كاميرات لكل فضائيات الدنيا تسجل كل ما يقوله هذا الخليط العجيب وتنقله للعالم كله على الهواء مباشرة..! مواطن بسيط.. واضح من نبرته وحديثه إما أنه لم يتلق تعليماً من الأساس، وإما أنه تلقى تعليماً نص ونص.. وتسرب من المدرسة فى سن مبكرة.. يتحدث فى الفضائيات ويقسم بأغلظ الأيمان أنه لن يبرح الميدان، ميدان التحرير طبعاً، إلا بعد إلغاء المادة الخامسة من قانون الانتخابات، وتفعيل قانون الغدر، وإلغاء الطوارئ.. ويقول بتحد: و«أنا بأقول للمجلس العسكرى.. احنا مش خايفين»..!! وأنا على يقين من أن المذيع لو سأله عما لا يعجب حضرته فى المادة الخامسة من قانون الانتخابات لوقع فى حيص بيص وارتبك ولأصبحت فضيحة على الهواء، لأنه حافظها كده، فهو طقم لازم يتقال على بعضه، يعنى الأخ من الآخر «قالوا له».. على رأى المحامى خليفة خلف الله خلف خلاف المحامى فى مسرحية «شاهد ماشافش حاجة»! والغريب أن هذا الرأى الذى تم تلقينه للمواطن البسيط، الذى لم يتلق قدراً مناسباً من التعليم، يلتقطه بعض رؤساء الأحزاب، والسادة مستعمرى الفضائيات من المتحدثين والمتحدثات والمنظّرين والمنظّرات، والذين يتحدثون فى أى شىء وكل شىء ليتاجروا به طالما أن ذلك يثير أكبر قدر من الفوضى والارتباك ويحقق لهم أكبر قدر من المكاسب! والأغرب من كل هذا أن أصحاب القرار لا يجدون مفراً من الاستجابة لهذا الرأى.. فيعلن المجلس العسكرى بعد الاجتماع مع رؤساء الأحزاب، أنه تقرر تعديل المادة الخامسة..!! ولأن الحكومة ملكية أكثر من الملك، وتريد إرضاء الشارع وأصحاب الصوت العالى بأى ثمن، حتى لو كانوا على خطأ، فتقرر من جانبها، وبعد أقل من 48 ساعة، إلغاء المادة الخامسة كلها على بعضها.. حتى يستريح الجميع، وكأن الحكومة تزايد على المجلس العسكرى وعلى الجميع..!! أى أن المجلس العسكرى قرر تعديل المادة والحكومة تلغى المادة والتعديل معاً.. وهو ما يعكس حالة التفاهم «الواضحة» بين المجلس والحكومة!! وطالما أننا ضربنا مثالاً بالجدل حول المادة الخامسة، فهذه المادة تحديداً من وجهة نظرى كانت إحدى الضمانات المهمة لعدم تزوير إرادة الناخبين.. فقد كانت تحظر على أى مستقل بعد فوزه فى الانتخابات أن ينضم لعضوية أى حزب، وإلا بطلت عضويته فى البرلمان..! فهى ضمانة لعدم العودة للعبة القذرة التى كان يلعبها الحزب الوطنى المنحل، على مدى تاريخه؛ حيث كان يرشح البعض للانتخابات على قائمته، والبعض الآخر يخوض الانتخابات مستقلاً، وعندما يفوز المستقل «المزيف»، ينضم فوراً للحزب الوطنى، وهو ما كان يمثل فساداً وإفساداً سياسياً صارخاً وفاضحاً..! لكن لأن الأحزاب الحالية بتمشى على سطر وبتسيب مائة سطر، فتدوس على المبادئ فى سبيل مكاسب آنية ضيقة، فقد طالبت المجلس العسكرى والحكومة بإلغاء المادة وعودة النظام القديم، لتلعب الأحزاب نفس لعبة الحزب الوطنى المنحل، والتى لم يكن لها من هدف إلا الضحك على الناخبين وتزييف إرادتهم..! هذا مجرد غيض من فيض عما يدور داخل دولة ميدان التحرير ليجد صدى لدى الحكومة وأصحاب الحناجر فى الفضائيات، وبعض الأحزاب الانتهازية..! إن مصر ليست دولة ميدان التحرير وحده.. مصر أكبر وأعظم من ذلك بكثير.. فالواقفون فى ميدان التحرير بمختلف انتماءاتهم وتناقضاتهم، حتى بما فيهم بتوع البطاطا واللب والسودانى، لا يمثلون مصر كلها.. مصر أكبر من الجميع وفوق الجميع.. حتى لو كره الكارهون من الفلول وراكبى الموجة ومدعى الثورة فى دولة ميدان التحرير.. قاتلهم الله جميعاً..!