مثلما تتساقط أوراق الشجر فى الخريف، تساقط عملاء وجواسيس إسرائيل الواحد تلو الآخر. ففى عام 1963 تم إلقاء القبض فى بازل على عميل للموساد يُدعى يوسف بنجل مع عميل آخر مساعد من المخابرات النمساوية يدعى أوتو يوكليك، بعد تهديدهما ل «هايدى جيركه»، ابنة أحد العلماء الألمان الذين عملوا فى مشروع الصواريخ المصرى. وحكم عليهما بالسجن لعدة أشهر وهو ما اضطر رئيس الموساد، إيسار هرئيل، إلى الاستقالة من منصبه. وفى عام 1965، سقط عميل الموساد «زئيف جور أريه» فى مصر بعد أن عمل بهوية ألمانية تحت اسم فولفجانج لوتز. وحكم عليه بالسجن المؤبد، ثم أطلق سراحه بعد حوالى عامين ضمن صفقة تبادل الأسرى التى أعقبت حرب يونيو 1967. وفى نوفمبر 1967 تم إلقاء القبض فى إحدى الشقق بألمانيا على عميلين للموساد هما يائير راحيلى وشخص آخر بعد اقتحامهما للشقة للحصول على معلومات بخصوص رئيس الجستابو سابقاً، هينريخ ميلر. وحكم عليهما بالسجن ثم أطلق سراحهما بعد تدخل الحكومة الإسرائيلية. وفى يوليو 1973، فى مدينة ليلهامر بالنرويج تم إلقاء القبض على ستة من عملاء الموساد هم سيلفيا رفائيل وأبراهام جيمر ودان أربيل وتسفى شتاينبرج وميخائيل دورف وماريان جلدنيكوف (بعضهم كان يحمل هويات مزيفة) بعد تورطهم فى مقتل الجرسون المغربى أحمد بوشيكى بطريق الخطأ معتقدين أنه على حسن سلامة، القيادى فى الجبهة الشعبية بتحرير فلسطين. وحكم عليهم بالسجن لعدة سنوات ثم أطلق سراحهم بعد قضاء جزء من مدة العقوبة وإعلان إسرائيل مسئوليتها عما حدث. وفى عام 1985، تم إلقاء القبض على جوناثان بولارد، وهو مواطن أمريكى كان يعمل باحثاً فى مخابرات الأسطول الأمريكى، على أبواب السفارة الإسرائيلية فى واشنطن، ووجهت إليه تهمة التجسس لصالح إسرائيل وحكم عليه بالسجن المؤبد. وأعربت إسرائيل عن أسفها واعتذرت وأعلنت حل وحدة التجسس العلمى التى كانت تقوم بتشغيله وإقالة رئيسها «رافى إيتان» من منصبه. وفى عام 1986، فقد مندوب من الصناعة العسكرية الإسرائيلية حقيبة بها جوازات سفر بريطانية مزيفة فى أحد المحال التجارية فى ألمانيا. وكان الموساد قد أعد هذه الجوازات لكى يدخل بها عدد من رجال التسويق إلى الصين بهويات مزيفة للتفاوض حول عقد بعض الصفقات العسكرية. وتقدمت بريطانيا باحتجاج رسمى إلى الحكومة الإسرائيلية. وفى أبريل 1991، ألقى القبض على أربعة يحملون جوازات سفر إسرائيلية: رجلان هما دابى ديب وران تسوف، وسيدتان هما أنّا دولجين وعاميت ليتفين، فى نيقوسيا بجزيرة قبرص، وفى المبنى الذى تقع فيه السفارة الإيرانية، أثناء محاولتهم استبدال البطاريات الخاصة بجهاز تنصت. وتم تقديمهم للمحاكمة ثم أطلق سراحهم بعد فترة سجن قصيرة. وفى سبتمبر - أكتوبر 1997، ألقى القبض على اثنين من عملاء الموساد يحملان جوازات سفر كندية فى العاصمة الأردنية «عمان» وذلك فى أعقاب فشلهما فى محاولة اغتيال رئيس الجناح السياسى لحركة حماس «خالد مشعل» فى حين لجأ عملاء آخرون للسفارة الإسرائيلية. وانتهت الأزمة بموافقة إسرائيل على إمداد الأردن بالمصل المضاد الذى ينقذ حياة مشعل، وإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، الزعيم الروحى للحركة، من سجنه وتشكلت فى إسرائيل لجان لتقصى الحقائق أدت فى النهاية (وإن لم يكن بصورة مباشرة) إلى اضطرار رئيس الموساد «دانى ياتوم» إلى تقديم استقالته، ونقل عدد من كبار قيادات الموساد من مناصبهم. وأعلنت حكومة إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو مسئوليتها عما حدث، واحتجت كندا على استخدام إسرائيل لجوازات سفرها والتزمت إسرائيل بعدم تكرار ذلك. وفى يناير 1998، تم إلقاء القبض على أربعة من عملاء الموساد بهويات إسرائيلية فى برن بسويسرا عندما كانوا يحاولون زرع جهاز تنصت فى مبنى يسكنه أحد المعاونين لحزب الله. وبعد التحقيق معهم أطلق سراح ثلاثة فى حين صدر الحكم على الرابع ويدعى إسحق بنطل بالحبس لمدة عام ودفع غرامة. وفى أعقاب هذه الفضيحة استقال الضابط المسئول فى الموساد، واعترفت إسرائيل بمسئوليتها عن الحادث. وفى نوفمبر 1998، تم إلقاء القبض على اثنين من عملاء الموساد يحملان أسماء أودى إرجوف ويجئال دامارى فى قرية (زيجى) القبرصية. وتم العثور فى غرفتهما على خرائط وجهاز يتعقب الترددات اللاسلكية. وحكم عليهما بالسجن لمدة ثلاث سنوات. لكن بعد تسعة أشهر صدر عفو من الرئيس القبرصى، وأعلنت إسرائيل مسئوليتها عن الحادث. لكن كل ما سبق شىء وسقوط الجاسوس الإسرائيلى، إيلى كوهين، فى دمشق شىء آخر، فقد كان عين وأذن إسرائيل فى العاصمة السورية إلى أن تم كشفه وإعدامه شنقاً فى 18مايو 1965. ولد إيلى كوهين فى 26 ديسمبر وفى رواية أخرى فى 6 ديسمبر عام 1924، بمدينة الإسكندرية. وكان والده، شاؤول، قد وصل مصر وهو فى السابعة من حلب السورية. فى عام 1944 انضم إيلى كوهين إلى الحركة الصهيونية وزار فلسطين سراً قبل أن يهاجر إلى إسرائيل عام 1957 ويسكن فى (بات يام) جنوبى تل أبيب. عمل فى البداية كمترجم للصحافة العربية فى المخابرات العسكرية (أمان) ثم بعد ذلك فى إدارة الحسابات بأحد المحال التجارية الكبرى. وفى 31 أغسطس 1959 تزوج من نادية وهى مهاجرة من العراق وشقيقة الأديب الإسرائيلى، سامى ميخائيل. وكان شقيقه الصغير موريس كوهين (1927 - 2006) يعمل بالموساد الإسرائيلى فى مجال التشفير والكتابة السرية. بدأت علاقة إيلى كوهين مع المخابرات الإسرائيلية فى عام 1954 عندما استأجر شقة باسمه فى مصر يستخدمها أعضاء شبكة التجسس والتخريب فى الفضيحة المسماة ب (فضيحة لافون). وفى عام 1960 تم تجنيده فى الوحدة 188، وهى وحدة العمليات التابعة للمخابرات العسكرية الإسرائيلية ليتم إعداده وزرعه فى إحدى الدول العربية. وشملت فترة الإعداد تمرينات لجعل الذاكرة أكثر حدة. وتعقب الآخرين والهروب منهم والتصوير بما فى ذلك الميكروفيلم والاندماج فى بلد عربى وسط سكان مسلمين. وأخذوا يعلمونه عادات وتقاليد العرب والمسلمين ويتركونه ليزور المساجد ويتعلم كيفية الوضوء والصلاة ويحفظونه بعض سور القرآن الكريم. وفى عام 1961، تم إرساله إلى الأرجنتين (بلد القاعدة) تحت غطاء تاجر عربى مهاجر سورى اسمه (كامل أمين ثابت). سافر إيلى كوهين جواً إلى زيوريخ بجواز سفر فرنسى وهناك حصل على تأشيرة دخول متعددة للجمهورية العربية المتحدة ثم واصل رحلته إلى بوينس أيرس عن طريق داكار فى السنغال. وفى الأرجنتين، أقام إيلى شبكة من علاقات الصداقة مع أفراد الجاليات العربية المقيمة هناك وعلى الأخص السوريون منهم. وفى النادى الإسلامى حضر حفل كوكتيل على شرف عيد ميلاد الملك الحسن، ملك المغرب. وهناك تعرف بأمين الحافظ، الملحق العسكرى بالسفارة السورية الذى أعطاه خطابات توصية لشخصيات مهمة جداً فى دمشق. وتوطدت العلاقات فيما بينهما بالسهرات التى قضياها معاً. وفى 24/8/1961 غادر إيلى الأرجنتين، وفى 28 سبتمبر من نفس العام، وقع انقلاب عسكرى فى سوريا برئاسة الدكتور مأمون الكسبرى، وحدث الانفصال بين مصر وسوريا. فأخذ إيلى إجازة قصيرة يقضيها فى إسرائيل قبل زرعه فى دمشق (بلد الهدف) وفى أثناء الإجازة توفى والده، شاؤول، وبعد انقضاء أيام العزاء السبعة (حسب الشريعة اليهودية) اضطر إيلى كوهين لتوديع عائلته. وفى يناير 1962، سافر جواً إلى أوروبا ثم بحراً من جنوه إلى بيروت مروراً بالإسكندرية. وعلى السفينة التقى بمهاجر سورى عائد من أوروبا إلى سوريا. فى دمشق، استأجر إيلى كوهين منزلاً بالقرب من مقر قيادة الجيش السورى لكى يمكنه مراقبة الأنشطة بسهولة وعاش فى دور رجل الأعمال الكريم الذى يغدق على الآخرين والوطنى المتحمس. وتصادق مع رجال الجيش وكبار المسئولين فى سوريا. وعن طريق هذه العلاقات جمع كوهين الكثير من المعلومات وفقاً لتوجيهات قادته فى المخابرات الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال شهدت الفترة من فبراير إلى يوليو 1962 قيام إيلى كوهين بإرسال 62 برقية تتضمن معلومات سياسية عند خطط الحكومة السورية ومشاريع إنشاء قيادة مشتركة مع العراق، وتوقيع صفقة سلاح مع الاتحاد السوفيتى يتم بمقتضاها تزويد سوريا بثلاثة أسراب ميج 19 ودبابات من طراز تى 54 ووصول 200 دبابة من هذا الطراز، وطائرات مقاتلة من طراز ميج 21. وفى 7/10/1962 قام إيلى كوهين بجولة على طول الحدود مع إسرائيل بصحبة العقيد خليل صافور، قائد إدارة الوقود وذلك بعد وقوع انقلاب عسكرى فى سوريا بقيادة أمين الحافظ (صديقه من الأرجنتين). وفى أعقاب هذه الجولة أمد إيلى كوهين قيادته فى إسرائيل بمعلومات دقيقة للغاية عن أوضاع الجيش السورى على امتداد الحدود فى هضبة الجولان وعن مواقع المدفعية 122مم، وأعداد الدبابات الموجودة فى القنيطرة. وفى عام 1964، انتقل الإشراف على نشاط إيلى كوهين من شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) إلى الموساد فى إطار إعادة تنظيم الأجهزة الأمنية فى إسرائيل. وفى تلك الفترة كان التوتر على أشده بين سوريا وإسرائيل وكانت هناك عمليات تقوم بها سوريا ضد ما يسمى بمشروع ناقل المياه القطرى فى إسرائيل، فأرسل كوهين إلى قيادته بالأماكن التى يخطط السوريون لضربها فى المشروع. ولذلك، يعتبر إيلى كوهين، رغم كشفه وإعدامه مفخرة المخابرات الإسرائيلية حتى الآن، لدرجة أن هناك من وصفوه خلال السنوات التى قضاها فى دمشق بأنه (عين وأذن) دولة إسرائيل فى العاصمة السورية. وقال عنه ليفى أشكول، رئيس الوزراء الإسرائيلى فى حرب يونيو 1967 إن ما قام به وفر على دولة إسرائيل ألوفاً مؤلفة من الجنود، والمعلومات التى بعث بها قبل حرب يونيو لا تقدر بثمن وهو ما أدى إلى انتصار إسرائيل الساحق فى هذه الحرب. وفى أوائل يناير 1965، وصلت إلى ميناء اللاذقية شحنة من أجهزة الاتصال السوفيتية الحديثة، وذلك لتحل محل المعدات القديمة فى الجيش السورى. وفى 7 يناير 1965 تم الاستبدال بالفعل ولدراسة فعالية وجدوى أجهزة الاتصال الجديدة، قرر الجيش السورى فرض سكون أو صمت لاسلكى على أجهزة اتصال الجيش لمدة 24 ساعة. لكن إيلى كوهين الذى لم يكن يعرف بأمر السكون أو الصمت اللاسلكى، استمر فى بث برقياته لقادته فى إسرائيل كالعادة خلال تلك الفترة. وانغلقت أجهزة استقبال الجيش السورى على إشارة البث وأخذوا يحللونها. وعندما قامت القوات السورية بمداهمة منزله لم يبد أية مقاومة لأمر اعتقاله. وفى 24 يناير أعلنت سوريا رسمياً خبر القبض عليه. واستمر التحقيق معه لمدة أربعة أسابيع إلى أن بدأت محاكمته فى 22 فبراير 1965 فى مبنى هيئة الأركان العامة السورية. ولم يسمح لأى محام أو صحفى بحضور جلسات المحاكمة، وبذلت إسرائيل أقصى جهدها من خلال العديد من الوسطاء إلى دمشق من أجل إنقاذ حياته وإطلاق سراحه، بما فى ذلك تقديمها لعرض مالى ضخم، لكن دون جدوى. وبعد مرور حوالى خمسة اشهر من القبض عليه وفى ساعة مبكرة من صباح 18 مايو 1965، تحركت قافلة عسكرية صغيرة فى شوارع دمشق. وفى إحدى سياراتها ووسط حراسة أمنية مشددة كان يجلس إيلى شاؤول كوهين (كامل أمين ثابت) الذى تم إيقاظه قبل قليل من زنزانته فى الطابق الثالث من سجن دمشق العسكرى. وبعد رحلة قصيرة توقفت القافلة عند مركز الشرطة المواجه لساحة (المرجه) وسط العاصمة السورية. وسرعان ما توافد على الساحة كثير من الضباط بمن فيهم الذين أصدروا حكمهم بالإعدام على إيلى كوهين فى المحكمة العسكرية وكذلك بعض الصحفيين والمصورين ممن حصلوا على التصاريح اللازمة لتوثيق الساعات الأخيرة لأكبر جواسيس إسرائيل. وتقدم الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية فى دمشق، نسيم إنديفو - كوهين ليشجعه ويصلى معه الصلوات المتعارف عليها فى مثل هذا الموقف. وبعد ذلك، تم نقل كوهين إلى وسط ساحة (المرجه) حيث كان أبوسليمان، عشماوى سوريا فى انتظاره ليضع حبل المشنقة فى رقبته. وبدون أن يغطى وجه المحكوم عليه بالإعدام قام بحركة سريعة بدفع الطاولة من تحت قدميه. وتم دفن إيلى كوهين فى دمشق، وحتى الآن وبعد أكثر من 46 عاماً، لاتزال سوريا ترفض السماح بنقل رفاته ودفنه فى إسرائيل. وبعد موته تمت ترقيته من رتبة رائد إلى عقيد. وفى مايو 2007، صرح منذر الموصلى، مدير مكتب الرئيس السورى فى تلك الفترة بأن إيلى كوهين تم دفنه فى حى المزه فى دمشق، لكن من غير الممكن العثور على قبره لأن هناك مبانى وشوارع أنشئت فوقه. وفى 30 مايو 2010 أذاعت موجات الجيش الإسرائيلى (جالى تساهال) لأول مرة تسجيلاً منقولاً عن راديو دمشق ويسمع فيه صوت إيلى كوهين. التسجيل كان قد تم فى 2 ديسمبر 1962 أى بعد حوالى عام من وجود كوهين فى سوريا. والمذيع الذى استضافه قدمه باسمه المزيف، كامل أمين ثابت، رجل الأعمال السورى الذى عاد إلى وطنه بعد سنوات كثيرة قضاها فى أمريكا اللاتينية. وقد صدر العديد من الكتب فى إسرائيل حول حياة وموت إيلى كوهين مثل كتاب (وحيداً فى دمشق) وكتاب (إيلى كوهين - رجلنا فى دمشق) ولأن عالم الجاسوسية يتمتع بجاذبية خاصة فى السينما، قام الإسرائيليون فى عام 1987 بعمل فيلم سينمائى عن إيلى كوهين اسمه الجاسوس المستحيل The Impossible Spy وقاموا بتسويقه عالمياً لدرجة أننى فوجئت بمشاهدته فى تليفزيون زيمبابوى وقتما كنت أعمل هناك.