بعد ما يقرب من 45 عاما يحكى عوديد جور أريه لأول مرة كيف اكتشف من قراءته لإحدى الصحف ليس فقط أن والده، الجاسوس الإسرائيلى فولفجانج لوتز، تم إلقاء القبض عليه فى مصر، ولكن أيضا انه كان متزوجا من امرأة أخرى غير والدته. ورغم أن الموساد الإسرائيلى من أكثر أجهزة المخابرات تكتما وتمسكا بالسرية فيما يتعلق بالعمليات التى يقوم بها عملاؤه. ويطارد كل من يسمح لنفسه من عملائه السابقين بإفشاء أسراره فإنه أعطى الضوء الأخضر لمخرج إسرائيلى يدعى ناداف شيرمان لعمل فيلم وثائقى عن لوتز يحمل عنوان (جاسوس الشمبانيا). أهم ما يتضمنه الفيلم هو الشهادات الصوتية الحية التى يدلى بها عملاء ومسئولون من الموساد، منهم من ترك الخدمة مثل مئير عاميت الذى تولى رئاسة الجهاز من 1963 إلى 1968 ومنهم الذين ما زالوا يعملون وقد ظهروا بعد إخفاء ملامحهم وتغيير أسمائهم التى نراها على الشاشة ويقول المخرج إن المسئولين فى الموساد عرضوا الفيلم على العاملين بالجهاز كى يشرحوا لهم كيف يمكن تلافى أخطاء الماضى. والخطأ الذى يعترف به رجال الموساد فى الفيلم هو السماح للوتز بتجاوز الحدود المسموح بها عادة. فقد سمحوا له أولا بعيش حياة الترف والرفاهية على نحو لم يعرفه جاسوس إسرائيلى آخر، وهو ما أدى فيما بعد إلى أزمة نفسية شديدة الخطورة انعكست آثارها عليه بعد ان أصبح لا يمكنه التفرقة بين شخصيته الحقيقية وشخصيته كجاسوس بعد إطلاق سراحه عام 1968 وعودته إلى إسرائيل ضمن صفقة تبادل الأسرى التى أعقبت حرب يونيو 1967. وأصيب بنوع من انفصام فى شخصيته، وظل يدفع الثمن حتى النهاية. والأمر الآخر المهم والمثير فى حياة هذا الجاسوس أنه وقع فى الحب وهو ما لايسمح به عادة للجواسيس، بعد أن التقى داخل قطار فى إحدى عطلاته بفتاه المانية رائعة الجمال (فالنزاود) ثم تزوجها فى القاهرة دون أن يخبر الموساد بالأمر فى البداية، وبعد أن عرفوا عملوا بمنطق (الغاية تبرر الوسيلة) وفضلوا كما يقول أحد مسئوليهم فى الفيلم، استمراره فى عمله لأنه كان يمدهم بمعلومات مهمة. وفى مقابلة مع ابن الجاسوس الإسرائيلى(عوديد) أجراها معه الصحفى المتخصص فى شئون المخابرات، يوسى ميلمان، ونشرتها صحيفة هآرتس، ويقول ميلمان: فى الساعة التاسعة من صباح 27 فبراير 1965، نزل عوديد جور أريه، درجات السلم من شقته فى شارع بييرجورين بالحى ال 16 من العاصمة الفرنسية باريس. وكعادته كل يوم سبت مشى حوالى 150 مترا إلى محل بيع الصحف لكى يشترى لوالدته (الإنترناشيونال هيرالد تيريبيون). ويقول الابن: أخذت الصحيفة واتجهت إلى المنزل وكعادتى أخذت ألقى نظرة على العناوين الرئيسية وتوقفت أمام عنوان يقول اختفاء ستة من الالمان الغربيين فى مصر. وفى التفاصيل قرأت اسم فولفجانج لوتز وزوجته فالنزاود». كان عوديد فى الخامسة عشرة من عمره تقريبا فى ذلك الوقت، فأصابه العنوان بصدمة مزدوجة فهو من ناحية كان يعلم أن والده جاسوس وكان من الواضح أمامه أن والده لم (يختفى) وإنما ألقى المصريون القبض عليه، وكان على ثقة من أنهم سوف يكتشفون أنه إسرائيلى وأنهم سوف يشنقوه. ومن ناحية أخرى، أخذ يسأل نفسه ومن هى فالنزاود؟ زوجته؟ أمى هى زوجته، فكيف تكون له زوجة اخرى؟ وما الذى سأقوله لأمى؟ هذه التعقيدات التى وجد نفسه فيها فى السنوات التى تتشكل فيها حياته، ظل يحتفظ بها فى داخله لمدة ما يقرب من 45 عاما. لم يتكلم مع احد عن قصة والده، فولفجانج لوتز الذى اتخذ لنفسه اسما عبريا هو زئيف جور أريه وتم إرساله إلى مصر فى مهمة استخباراتية وبتكليف من الموساد. صحيح أن القصة أصبحت معروفة وأن لوتز نفسه ألف كتابا عنها، ولكن القصة كما يرويها الابن عوديد الآن، تتناول زوايا أخرى بالتاكيد لا ترضى والده المسمى ب (جاسوس الشمبانيا) و(العميل فوق الحصان) ولا ترضى المسئولين فى الموساد الإسرائيلى. فعوديد هنا يكشف نفسه للجمهور ويجرى لأول مرة مقابلة صحفية عن إهانة وخيانة والده له ولأمه. عوديد جور أريه الآن هو أستاذ لإدارة الأعمال ورجل أعمال ناجح يعيش فى الولاياتالمتحدة ويكشف لأول مرة عن مشاعر صبى يكتشف من خبر فى صحيفة أن والده لم يكن جاسوسا فقط يواجه الموت ولكن أيضا كان متزوجاًَ من امرأة أخرى غير والدته (رفقة). ويقول: لقد خدع رؤساءه فى الموساد وخدع أبناء عائلته.. أخفى عن ابنه وزوجته الشرعية حقيقة زواجه من أخرى. فى الوقت الذى كنت أعيش فيه مع أمى فى باريس ونحمل كل التقدير للأب الزوج الذى يعرض حياته للخطر فى القاهرة من أجل إسرائيل، كان أبى يقيم حياة عائلية موازية مع فالنزاود التى خدعها أيضا ولم يخبرها بأنه متزوج وأنه أب. وعندما سئل عوديد عن أى الخبرين كان أقسى: خبر القبض على والدك أم خبر خيانته لك ولأمك؟ قال: لم أعقد مقارنة فالخبران صدمانى بنفس القوة. صعدت السلالم ودخلت البيت وقلت لأمى: أبى اختفى فى القاهرة فاختطفت الصحيفة منى وقرأت الخبر بسرعة وحاولت أن تتماسك واتجهت إلى التليفون واتصلت برجل الاتصال معنا، عميل الموساد أريه سيفان، الذى على ما يبدو لأنه يوم سبت لم يكن قد استيقظ بعد. ويضيف عوديد:«فى ذلك الوقت لم يكونوا يعرفون بخبر إلقاء القبض على والدى. وأعتقد أن رجال الموساد فى أوروبا سارعوا على الفور لشراء الهيرالدتريبيون. إن حقيقة أن الموساد لم يكن يعلم خبر القاء القبض على والدى وأنهم عرفوا من والدتى التى سمعت منى بعد ان قرأت الصحيفة، أصابتنى بانكسار آخر. فأبى كان يعطينا الإحساس دائما بأنه يعرف كل شىء وأنه يعرف كيف يدبر أموره وليس هناك ما يدعونا للقلق فوراءه رجال الموساد الذين يعرفون ما يفعلونه. لقد كنت واثقا حتى ذلك الوقت بأن الموساد قادر على عمل كل شىء وأن له مصادره التى تطلعه على كل شىء.. هذا كله جعلنى أشعر بالإحباط الشديد. ولد عوديد جور أريه عام 1949 فى القدس وتعلم فى مدرسة دافيد شمعونى فى جيفعتايم وفى عام 1960 سافر مع والديه إلى باريس. ولأسباب تتعلق براحة العمل والأسرة تم اختيار العاصمة الفرنسية لتكون قاعدة للعملية، ففى باريس يوجد مقر قيادة الموساد فى أوروبا. ومنها سافر وإليها عاد فولفجانج لوتز من مهمته فى مصر، وبها التقى بمشغليه وقضى إجازاته مع عائلته. أما لوتز نفسه كما سبق أن ذكرنا فقد ولد عام 1921 وكان والده مديرا لأحد المسارح فى المانيا ولم يكن يهوديا ولذلك لم يختن ابنه مما ساعده مستقبلا فى مهمته. وعندما بلغ لوتز العامين انتحر الأب وبقى الولد مع أمه، لينا، وهى ممثلة مسرحية يهودية. وبعد تولى النازيين الحكم فى يناير 1933، هاجرت الأم مع ابنها إلى فلسطين. فى الموساد كانوا ينادونه باسم الدلع (فولفى) أما اسمه الكودى فكان (شمشون).وانضم إلى إحدى الوحدات السرية للغاية وهى الوحدة 131. وهذه الوحدة المسئولة عن تشغيل العملاءبغطاء عميق فى دول الهدف: مصر وسوريا والاردن وهى الدول التى من الممكن أن تشن حربا على إسرائيل، الوحدة التى قادها يوسكاه ياريف كانت تتبع المخابرات العسكرية (أمان) فى ذلك الوقت. وفى عام 1963 وبينما لوتز كان لايزال فى مصر، انتقلت الوحدة إلى الموساد. وقد حدث ذلك على خلفية استقالة رئيس الموساد، إيسار هرئيل ليحل محله مئير عاميت الذى كان آنذاك يشغل منصب رئيس (أمان). نقل عاميت معه رجاله من المخابرات الحربية بما فيهم الوحدة 131 وقائدها. وفى الموساد أصبح اسم هذه الوحدة هو (قيساريا). وفى يناير 1961، وبعد مرور حوالى عام على نشاطه فى مصر، وفى إحدى رحلاته إلى اوروبا التقى لوتز فى أحد القطارات مع فالنزاود (تيدى) نيومان. كان عمره 41 وهى فى الثلاثين. وقدم نفسه إليها كمليونير جنى ثروة ضخمة من تربية الخيول فى استراليا وهو الآن يقوم بنفس العمل فى القاهرة. وكانت فالنزاود قد ولدت عام 1930 فى ألمانياالشرقية انضم والدها إلى جماعة (شهود يهوه) المسيحية التى عانى أعضاؤها من المطاردة فى فترة الحكم النازى. وفى أواخر الحرب العالمية الثانية تم اغتصابها وإن لم يكن من الواضح أن عملية الاغتصاب قام بها أحد الجنود السوفييت أو أحد القساوسة الألمان. فبعد إلقاء القبض عليها فى مصر، تم سجنها فى زنزانة واحدة بسجن النساء فى القناطر، مع مارسيل نينيو، أحد أعضاء شبكة التجسس والتخريب الإسرائيلية التى انكشفت عام 1954. وقالت نينيو إن فالنزاود كانت تعانى من كوابيس ليلية يظهر فيها مغتصبها وصليبه على صدرها. وبعد الحرب انتقلت العائلة إلى ألمانياالغربية. وتعلمت فالنزاود الفندقة فى سويسرا ثم سافرت للعمل فى لوس أنجليس، لكن هناك تبخرت أحلامها، فقد وجدت عملًا كعاملة نظافة للغرف فى أحد الفنادق، ووقعت فى حب شخص خدعها، وفى النهاية ركبت السفينة من الولاياتالمتحدة إلى أوروبا وأثناء سفرها بالقطار، التقت مع لوتز، وبعد أسبوعين تزوجا ورافقته إلى القاهرة. لكنه لم يقل لها بأنه إسرائيلى ولم يقل لها إنه متزوج وإنه أب. كما أن رؤساءه فى الموساد لم يعرفوا بأمر زواجه إلا عن طريق المصادفة. وبمجرد أن علموا سارعوا باستدعاء (شمشون) ليستوضحوا الأمر، والبقية معروفة، وفى مايو 1963 صدرت له أوامر جديدة بأن عليه أن يتقرب لأوساط العلماء الألمان جيركه وفيلتس وكلينفاختر بهدف تصفيتهم. وكان هؤلاء العلماء الألمان يعملون على تطوير مشروع الصواريخ المصرى، الأمر الذى جعل القيادتين العسكرية والسياسية فى إسرائيل تصابان بالهستيريا، وكان الشعور السائد هناك هو أن العلماء الألمان يسعون إلى استكمال العمل الذى لم يستطع هتلر استكماله، وكان هذا الشعور مسيطرًا بصفة خاصة على رئيس الموساد، إيسار هرئيل. بدأ الموساد فى إرسال خطابات تهديد وأخذ يرسل مبعوثين للعلماء وعائلاتهم لإقناعهم بوقف اتصالاتهم مع مصر. وعندما لم تفلح هذه الطريقة أقدم على العمليات الإرهابية. فأرسل الطرود الناسفة وحاول اغتيال عدد منهم. ونفذ ( شمشون ) أيضًا المهمة الجديدة المكلف بها. فقد أمده مشغلوه بالمواد المتفجرة التى أخفوها فى عبوات الصابون، وقام هو بإدخال هذه المواد وجهاز التفجير فى الطرود التى أرسلها من القاهرة إلى العلماء. ولسوء الحظ أن سكرتيرة عالم الصواريخ فيلتس هى التى قامت بفتح الطرد الذى انفجر فى وجهها وأصابها بالعمى. وفى فبراير 1967 وعند عودتهم من جولة فى مرسى مطروح فوجئ الزوجان لوتز برجال الشرطة يحيطون بمنزلهما. وبتفتيش المنزل تم العثور على جهاز الاتصال الذى تم إخفاؤه، وبالإضافة إليهما تم القاء القبض على اربعة آخرين لم يكن لديهم أى علم بما يقوم به لوتز وفالنزاود: والدا الزوجة اللذان كانا فى زيارة لابنتهما وممثل إحدى الشركات الألمانية وزوجته المصرية، وتم على الفور إطلاق سراح ثلاثة منهم فى حين تم تقديم الرابع إلى المحاكمة التى قضت ببراءته. استمرت محاكمة لوتز وزوجته ليومين وقام التليفزيون المصرى بإذاعة أجزاء منها. ومثلما هو معروف صدر الحكم على لوتز بالسجن المؤبد وعلى زوجته بثلاث سنوات. وفور إلقاء القبض عليه، لجأ رئيس الموساد، مئير عاميت إلى الجنرال ريهارد جهلن، رئيس المخابرات الألمانية، وحكى له الحكاية وطلب منه أن يضع الجاسوس الإسرائيلى تحت رعايته وأن يخبر السلطات المصرية بأن لوتز هو رجله فى القاهرة، وهو ما حدث. ولكى يحول دون إمكانية أن يتعرف أحد فى إسرائيل على لوتز ويثرثر بالحديث، قام الموساد بشراء معدات خاصة بالتشويش وذلك لمنع التقاط الإرسال التليفزيونى المصرى أثناء فترة المحاكمة. ويقول يوسى ميلمان فى صحفية هآرتس إنه حتى اليوم من غير الواضح فى الموساد كيف تم كشف العميل (شمشون). فهناك عدة روايات بما فى ذلك الرواية التى لم ينفها ياريف وهى أنه تم القبض عليه بطريق الخطأ. فالشرطة لم تكن تعرف أن لوتز جاسوس، ورجالها جاءوا لاعتقاله بصورة وقائية وهو ما فعلوه فى نفس اليوم مع غالبية الألمان الغربيين المتواجدين فى مصر، بسبب زيارة رئيس ألمانياالشرقية الشيوعية، فالتر أولبريخت. ووفقًا لنظرية ياريف فإن لوتز الذى لم يكن يعرف بأمر زيارة أولبريخت، اعتقد خطأ أن رجال الشرطة المحيطين بمنزله عرفوا أنه جاسوس، ولذلك لم يقاوم وأدخلهم منزله وكشف عن جهاز الاتصال واعترف بما قام به لكنه تمسك بهويته المزيفة. وعندما سئل عوديد عن أثر ذلك كله على والدته قال إنها عانت من فترات اكتئاب عميق، وكان ذلك طبيعيًا سواء بسبب القبض على زوجها أو بسبب حكاية المرأة الأخرى، والوحيد الذى كانت تتحدث معه شقيقها نحمان جور أريه، الذى كان يعمل فى الشاباك وتوفى مؤخرًا. لكنها ظلت متضررة من تصرف الموساد. وظلت تشعر بأن العالم كله من حولها قد خدعها: الزوج والموساد، وزوجات رجال الموساد، صديقاتها المخلصات.