الموساد مثلما هو معروف هو جهاز الاستخبارات والمهام الخاصة الإسرائيلى. واسم (الموساد) فى الأصل هو اختصار لعبارة (هاموساد لعالياه بيت) أى مؤسسة الهجرة الثانية وهى الهجرة غير الشرعية التى قام بها يهود أوروبا إلى فلسطين. أما شعار الموساد فقد صممه شلومو كوهين - أبريئيل وهو عبارة عن شمعدان بيت المقدس الموجود على بوابة (تيتوس) والتى يطلق عليها أيضاً بوابة النصر فى (فوروم رومانوم) بالعاصمة الإيطالية روما. والكلمات الموجودة حول الشعار مأخوذة من التوراة، سفر الأمثال، الأصحاح!! وتقول (حيث لا تدبير يسقط الشعب، أما الخلاص فبكثرة المشيرين). وجهاز الموساد الإسرائيلى عبارة عن مجموعة من الوحدات. وإذا استثنينا الوحدات الإدارية فهناك الوحدات العملياتية الميدانية التى أشار إليها عميل الموساد السابق، فيكتور أوستروفسكى، الذى هرب إلى كندا وأصدر بالتعاون مع صحفى كندى كتابه الذى يحمل شعار الموساد السابق (لأنك بالتدابير تصنع حرباً) وهى جملة مأخوذة من التوراة أيضاً. وأوستروفسكى يعيش الآن فى الولاياتالمتحدة فى بلدة (سكوتسدايل) بولاية أريزونا حيث يرسم اللوحات الفنية ويتعيش من بيعها ويقدم برنامجاً أسبوعياً فى الإذاعة اسمه (Spy talk). ويتشكل الموساد - كما جاء فى كتاب أوستروفسكى من مجموعة من الوحدات العلمياتية الميدانية أهمها: وحدة قيساريا العملياتية - وفقاً لتقارير نشرتها صحيفة الديلى تليجراف البريطانية - فى قاعدة بصحراء النقب وتضم حوالى 40 مقاتلاً ومقاتلة يتحدثون عدة لغات أجنبية ويتخصصون فى أساليب مختلفة للقتل، وهى الوحدة المسئولة عن تصفية من تسميهم بأعداء إسرائيل فى الخارج. كما تضم الوحدة مجموعة الاغتيالات المسماه (كيدون)، والمعروف أن الاغتيالات أو التصفيات الجسدية ليست شيئاً جديداً على المخابرات الإسرائيلية، ولكن بمرور الوقت وعلى الأقل حتى أوائل سبعينيات القرن الماضى، كان اللجوء إلى سياسة التصفية الجسدية والاغتيال بمثابة الملجأ الأخير الذى يمكن اللجوء إليه ولكن بحذر. وهذا الحذر جعل أحد كبار ضباط الموساد يقول: إن الاستخبارات ليست شركة قتل محدودة الضمان على غرار المافيا. لكن من المهم جداً القول بأن سياسة الاغتيالات يمكن أن تصبح سلاحاً ذا حدين. فالذى تفعله فى خصومك يمكنهم أن يفعلوه بك». ولهذا السبب، كانت التقديرات داخل الموساد وحتى الخمسينيات تشير إلى أنه من الأفضل تجنب اللجوء إلى سياسة الاغتيال فيما يتعلق بقادة دول العدو. وكان الاستثناء الوحيد تقريباً أثناء التخطيط لحرب السويس (العدوان الثلاثى على مصر 1956). ففى خلال عملية التنسيق للعمليات الحربية بين المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) وضباط من المخابرات البريطانية والفرنسية، بادر البريطانيون بالأساس بطرح فكرة اغتيال الرئيس المصرى، جمال عبد الناصر، لكن الفكرة لم تخرج إلى حيز التنفيذ. وبالرغم من ذلك، كانت هناك حالات لم تتردد فيها المخابرات الإسرائيلية - بتوجيه من المستوى السياسى - فى القيام بعمليات تصفية جسدية لمن يعدونهم (أهدافاً قيمة). وهى الشخصيات التى يعتقدون أن القضاء عليها سوف يضر كثيراً بالقدرة الميدانية. وهكذا وعلى سبيل المثال لا الحصر، وفى شهر يوليو 1956، صدق رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية آنذاك، يهوشافاط هركابى، على خطة اغتيال العميد مصطفى حافظ، قائد المخابرات العسكرية المصرية فى قطاع غزة والمسئول عن إرسال الفدائيين من القطاع إلى داخل إسرائيل. وبالفعل، تمت تصفيته بواسطة طرد ناسق تم إخفاؤه داخل كتاب وتسليمه له عن طريق أحد العملاء. وأصبح استخدام الرسائل الناسفة أسلوباً رئيسياً من قبل الموساد فى سنوات الستينيات، وعلى الأخص عندما فكر الموساد فى اغتيال العلماء الألمان الذين ساعدوا مصر فى تصنيع الصواريخ. فقد تم تحذيرهم فى البداية عن طريق حملة تخويف وتهديد أدارها رئيس الموساد شخصياً آنذاك، إيسار هرئيل. أما الذين لم يخافوا أو يرتدعوا منهم فقد أصبحوا هدفاً للاغتيال، ولأن الموساد وقتها لم تكن لديه وحدة اغتيالات خاصة، فقد اضطر هرئيل إلى الاستعانة بوحدة من الأمن الداخلى (الشاباك) برئاسة كل من تسفى ملحين ورافى إيتان، اللذين استعانا أيضاً بوحدة ميدانية صغيرة فى الموساد كان يرأسها إسحق شامير. وفى العملية التى أطلق عليها اسم (دموكلس) والتى بدأت فى أغسطس 1962 واستمرت لعدة أشهر، قامت المخابرات الإسرائيلية باغتيال الدكتور هاينز كروج، وهو مدير شركة مصرية باسم (أنترا) فى ميونيخ ويعتقد أنها كانت على علاقة بمشروع الصواريخ فى مصر. وكانت هناك محاولة اغتيال أخرى ولكنها فشلت للدكتور هانز كليفاختر. وفى نفس الوقت، قام خبراء المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) والموساد بإرسال خطابات ناسفة لعلماء ألمان آخرين كانوا يعملون فى مصر، وذلك عن طريق عميل إسرائيلى كان يعمل فى مصر اسمه ولفجانج لوتز (سوف نتحدث عنه بالتفصيل فى حلقات قادمة). ولم تتوقف عمليات ملاحقة العلماء الألمان إلا عندما خاف رئيس الوزراء الإسرائيلى، آنذاك، من أن يضر ذلك بالعلاقات مع ألمانيا. وعندئذ، اضطر إيسار هرئيل، رئيس الموساد إلى الاستقالة ليخلفه مئير عاميت الذى اتهمه بالمبالغة الشديدة فى تقدير مشروع الصواريخ المصرى وأن المسألة لم تكن تحتمل كل الذى حدث. وفضل عاميت خلال سنوات رئاسته للموساد التفرغ لبناء جهاز حديث يعمل وفقاً للمنطق، ويتوقف عن القيام بعمليات خاصة تحمل طابع الخطورة ولا تفيد الأمن فى شىء. وركز فى جمع المعلومات الاستخباراتية وإقامة العلاقات مع أجهزة الاستخبارات العالمية. وللحقيقة، لم تشهد سنوات رئاسته أية عمليات اغتيال أو تصفية. أما نقطة التحول التى أعادت سياسة الاغتيال إلى الموساد فقد كانت فى أعقاب حرب يونيو 1967. ففى ذلك الوقت، عادت سياسة الاغتيالات لتتصدر المشهد ضد الفلسطينيين سواء داخل المناطق المحتلة أو فى الخارج. وتم التنفيذ بواسطة الأذرع الأمنية الإسرائيلية الثلاث: الموساد والمخابرات العسكرية (أمان) والأمن الداخلى (شاباك). غير أن التحول الكبير جاء فى أعقاب مقتل الرياضيين الإسرائيليين ال 11 فى أولمبياد ميونيخ فى شهر سبتمبر 1972. ففى أعقاب هذه العملية أمرت رئيسة الوزراء، آنذاك، جولدا مائير، رئيس الموساد تسفى زامير، بالقيام بحملة اغتيالات موسعة ضد كل من كانت له علاقة سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بمقتل الرياضيين. وقام زامير بتكليف مايك هرارى، رئيس شعبة (قيساريا) وهى وحدة العمليات الخاصة فى الموساد، بتنفيذ المهمة. وكانت هذه هى المرة الأولى فى تاريخ المخابرات الإسرائيلية التى تقوم فيها بتنفيذ مشروع القتل لأجل القتل، ولم يكن (المشروع) ضد فرد بعينه ولكن ضد قائمة تضم العشرات. وعندئذ أيضاً تحددت خطوات العمل المعمول بها حتى اليوم. فقد قامت المخابرات الإسرائيلية بتحديد قائمة - يسمونها فى الوقت الحالى (بنك) الأهداف المراد تصفيتها. وتم تشكيل لجنة مصغرة تضم ثلاثة وزراء أطلق عليها اسم (لجنة إكس) لديها صلاحية التصديق على ما يطلبه قادة الموساد من أجل القيام بعمليات التصفية. ويقال إن لجنة إكس هذه كانت تتشاور قبل التصديق مع المستشار القانونى للحكومة الذى أدى دور المحكمة ممثلة فى شخص واحد يحكم بإعدام المتهم! وكانت هذه هى المرة الأولى التى كان الدافع فيها وراء سياسة الاغتيالات هو مجرد الانتقام، وإن كانوا يغطونه بكلمات أخرى مثل (الدرع) وخلافه. وفى تلك الفترة أيضاً ظهرت أصوات معارضة من داخل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وبدأت تتردد كلمات مثل (إذا قتلناهم فسوف يقتلوننا أيضاً). وبالفعل، قامت المنظمات الفلسطينية بإصابة رجل الشاباك، تسادوق أوفير، فى بروكسل بإصابات بالغة، وقتلت زميله باروخ كوهين فى مدريد فى يناير 1973. كما بدأت تتردد أيضاً كلمات معارضة لاعتبارات مبدئية تقول إن المخابرات يجب ألا تتدخل فى حرب قذرة على غرار المافيا. وانتهت عملية الاغتيالات هذه فى يوليو 1973 فى ليلهامر بالنرويج، عندما أخطأ عملاء الموساد وأطلقوا النار على جرسون مغربى يدعى أحمد بوشيكى معتقدين أنهم بذلك تخلصوا من على حسن سلامة الملقب ب (الأمير الأحمر) والذى يعتبر العقل المدبر وضابط العمليات فى منظمة (أيلول الأسود)، وهى المنظمة التى قامت بعملية قتل الرياضيين فى ميونيخ. لكن الفشل فى النرويج لم يوقف سياسة الاغتيالات داخل الموساد ولكنه أبطأ من معدلها، حتى لا تظهر إسرائيل فى صورة الدولة الإرهابية وحتى لا تتأثر علاقاتها مع الدول الأخرى، مثلما حدث مع النرويج ومع الأردن فى أعقاب المحاولة الفاشلة لاغتيال خالد مشعل فى عمان 1997. وقد قامت اللجنة الفرعية للاستخبارات والأمن بالكنيست الإسرائيلى بالتحقيق فى المحاولة الفاشلة لاغتيال مشعل. وفى مارس 1998، أصدرت تقريرها الذى جاء فيه: «إن حكومات إسرائيل ولسنوات طويلة لم تبلور سياسة للتصدى للمنظمات (الإرهابية) تقوم على حسابات مبدئية وخط منطقى».. و(أنه فى ظل غياب سياسة ثابتة للعمل، أصبح عنصر رد الفعل يحمل طابعاً أكبر من حجمه وضارا فى نفس الوقت). وعنصر رد الفعل هذا كان فى الواقع هو الأساس وراء عمليات الرسائل المسموعة وهو ما حدث مع وديع حداد، الذى كان مسئولاً عن عدة عمليات فى السبعينيات من بينها عملية اختطاف طائرة (إير فرانس) والهبوط بها فى مطار عنتيبى. وهو ما حدث أيضاً فى عملية (ربيع الصبا) فى أبريل 1973، وهى العملية التى أدت إلى مقتل ثلاثة من كبار رجال منظمة فتح فى بيروت. وهناك افتراض آخر يقول إنه من الممكن وربما من المرغوب فيه تصفية قادة المنظمات الصغيرة وهى المنظمات التى تعتبر فى حقيقة الأمر (منظمة الرجل الواحد). ومثل هذا التوجه له نجاحاته وإخفاقاته. فعلى سبيل المثال فإن زهير محسن زعيم منظمة (الصاعقة) الفلسطينية والموالى لسوريا، وُجد مقتولاً فى ظروف غامضة فى الريفيرا الفرنسية عام 1979 وأصاب مقتله منظمته بالسكتة القلبية. لكن الأمر لم يكن كذلك مع فتحى الشقاقى. ففى أكتوبر 1996، تقرر اغتيال رئيس منظمة الجهاد الإسلامى، على افتراض أن مقتله سوف يضع نهاية لقدرات منظمته الصغيرة نسبياً، وأن من سيخلفه وهو الدكتور رمضان شلح، يفتقر إلى قدرات الزعامة. لكن سرعان ما تبخرت هذه الفرضية وأثبت شلح قدرات غير عادية فى منظمة الجهاد الإسلامى التى قامت بعمليات انتحارية جريئة داخل إسرائيل. دائماً وأبداً كان الاعتبار الأساسى الذى يوضع فى الحسبان وقت المناقشات التى تدور بين المستوى الاستخباراتى والأمنى وبين المستوى السياسى فى إسرائيل - وفقاً لمقال يوسى ميلمان فى صحيفة هآرتس - هو اعتبار المكسب والخسارة أو التكلفة والفائدة. فإذا كانت عملية الاغتيال سوف تؤدى إلى رد فعل قاس من قبل هذه المنظمة أو تلك فلا داعى لها. وعلى ما يبدو، فقد نسى الموساد هذا الاعتبار المهم عندما أقدم على تصفية أمين عام منظمة حزب الله، عباس موسوى فى جنوب لبنان عام 1992، أو أن التقدير الذى دفع المسئولين وراء عملية الاغتيال هذه كان خاطئاً وجانب الصواب. ذلك لأن رد فعل حزب الله كان رهيباً وتمثل فى توجيه ضربتين قاتلتين بسيارتين ملغومتين فى بوينس آيرس بالأرجنتين ضد السفارة الإسرائيلية ومبنى آخر تابع للطائفة اليهودية هناك سقط على أثرهما أكثر من مائة قتيل بالإضافة إلى مئات من الجرحى. الواضح فى دوائر الموساد فيما بعد اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) فى منطقة سيدى بوسعيد فى تونس 1988 أن عملية الاغتيال كانت خطأ كبيراً. فأبوجهاد، نائب عرفات كان مسئولاً عن إدارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى التى بدأت بمبادرة محلية عفوية. غير أن الموساد كان يأمل - وهو ما يثبت فيما بعد أنه أمل كاذب - فى أن يؤدى مقتل أبوجهاد إلى إطفاء الانتفاضة فى المناطق المحتلة. وفيما بعد أصبح من الواضح لكثيرين داخل الموساد وباقى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن مقتل أبوجهاد أوجد فراغاً كبيراً داخل القيادة الفلسطينية وترك عرفات وحده دونما مشورة من رجل استراتيجى مؤهل له اعتباراته البرجماتية، وهو خطأ كبير وقعت فيه إسرائيل. لكن هذا المفهوم - وهو عدم المساس بالزعماء الوطنيين مثل مفاهيم كثيرة أخرى - لم يعد له وجود داخل أروقة الموساد فقط تم قتل عرفات بطريقة أو بأخرى. وتأكد ذلك بصفة خاصة فى أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية التى اندلعت عام 2000، وقامت الجبهة الشعبية باغتيال وزير السياحة الإسرائيلى، رحبعام زئيفى، ورد الموساد بقتل أحد كبار قادتها وهو أبوعلى مصطفى. والشىء الواضح فى السنوات الأخيرة هو تخلى الموساد والأجهزة الأمنية عموماً عن كافة الاعتبارات التى تضبط الأداء عند الإقدام على عمليات اغتيال، فقد أصبح الاغتيال بالجملة بعد أن كان بالقطاعى، فاغتالوا الشيخ أحمد ياسين والرنتيسى والمهندس والمبحوح وآخرين غيرهم.