يذكر التاريخ أن جنرال الحرب الفرنسى الأشهر «شارل ديجول» قال ذات مرة لمواطنه المفكر الأديب أندريه مارلو : «المستعمرات انتهت يجب أن نفعل شيئا آخر»، لقد غربت الشمس عن الإمبراطورية الاستعمارية الغربية لدول أفريقيا والشرق العربى بفعل الثورات التحريرية ولم يعد الاحتلال العسكرى أداة متاحة لفرض الوصاية ونهب ثروات الدول المستضعفة ، لكن المستعمر الغربى الأبيض لم يكف عن البحث عن طريقة للعودة إلى هذه المستعمرات، ليس على ظهر دبابة (وإن كان هذا خيارا مطروحا.. انظر العراق مثلا) ولكنه اهتدى - بعد تفكير منظم وتجريب فى العديد من المراكز البحثية والمعامل الاستخباراتية – إلى العودة لمستعمراته ممتطيا ظهر الدعاية المسمومة ومتجملا بالشعارات البراقة لنشر الديمقراطية والحرية التى يمررها من خلال رؤوس حراب تحمل الجنسيات الوطنية للبلاد المستهدفة بالغزو، وأبرز هذه الحراب فى السنوات الأخيرة مثلتها مؤسسات المجتمع المدنى التى ارتبطت بعلاقات تراكمية مشبوهة بمؤسسات مثيلة تحركها من الخارج مع التزام مؤسسات الخارج بما تراه مصالح عليا لبلادها، وأبرز الأمثلة فى الغرب الأمريكى على هذا النوع من المؤسسات ما يسمى بصندوق الوقفية الأمريكية ويرمز له اختصارا ب «NED». (1) تاريخ من العمل السرى لا تخجل «نيد» وغيرها من المؤسسات الأمريكية أن تحكى جانبا منه بفخر، فليس هناك من دولة ليس لها مصالح عليا تسعى إلى تحقيقها سواء من خلال العمل المباشر أو الدعاية، وكلاهما يحتاجان إلى تمويل مادى، لكن الغرب الأمريكى تحديدا عندما خطط للوصول إلى غاياته وتنفيذ مصالحه المتمثلة فى بسط نفوذ وهيمنة الإمبراطورية الأمريكية لم يعتمد كثيرا على الشراء المباشر للعملاء فى الخارج، ولكنه اعتمد على استراتيجية ثنائية:«الحرب والدعاية» ووضعها موضع التنفيذ للوصول إلى غاياته السياسية الخارجية، وفى هذا الإطار برز بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة عمل مؤسسى كبير يحمل شعار نشر الديمقراطية، وأبرز المؤسسات التى اضطلعت بدور فى هذا العمل المؤسسة التى أشرنا لها فى المقدمة وتحمل اسم «National Endownent For Democracy» ويرمز لها اختصاراً ب «NED» وتجمع حصيلتها الأساسية التى تنفق منها على تنفيذ المهمة الموكلة لها من جيب المواطن الأمريكى دافع الضرائب. (2) تاريخ طويل من العمل السرى بدأ فى أعقاب الحرب العالمية الثانية تولت فيه وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) إرسال الدعم المالى والمستشارين والمعدات لدعم صحف الأحزاب الأوروبية التى تناهض السياسات الاستعمارية الأمريكية ، وفى الستينيات فى عهد إدارة الأمريكى «جونسون» عندما تم الكشف عن أن بعض المؤسسات التطوعية الخاصة الأمريكية تتلقى أيضا تمويلات سرية من «السى أى إيه» لتتولى مهمات شن حروب الأفكار والدعاية فى المحافل الدولية، استصدرت الإدارة الأمريكية قرارا بوقف هذا النوع من التمويل وأوصت بإنشاء آلية تحمل صفتى العامة والخاصة فتكون مؤسسة أهلية تعمل من خلال منظومة تابعة للدولة، تتولى فى العلن تمويل الأنشطة الدعائية المتعلقة بالمصالح الأمريكية فى الخارج. وتحولت التوصية إلى نقاشات عديدة تراوحت بين الإدارة (الحكومة) الأمريكية والبرلمان (الكونجرس) وتستلهم تجارب كثيرة لتطوير مناهج عمل موجهة فى الأساس لحرب المعسكر الشيوعى الذى كان يقوده فى هذا التاريخ الاتحاد السوفيتى، وتعمل برامج الغزو تلك على الدوام حاملة شعارات تعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفى عام 1982 أثناء زيارة له إلى المملكة المتحدة، ألقى الرئيس الأمريكى رونالد ريجان خطابا أمام أعضاء البرلمان الإنجليزى اقترح فيه إنشاء مبادرة من أجل تعزيز البنية التحتية للديمقراطية من خلال نظام جديد يتم وضعه لما سماه حرية الصحافة والنقابات المهنية والأحزاب السياسية وحتى الجامعات (بالطبع هذا النظام موجه للخارج الأمريكى) ونوه ريجان فى كلمته أيضا بأن المؤسسة السياسية الأمريكية سوف تبدأ فى القريب العاجل دراسة الكيفية التى يمكن أن تساهم بها (الأمة الأمريكية) فى الحملة العالمية لنشر الديمقراطية. ومن الواضح أن ريجان كان يجمع حلفاء أمريكا الأوروبيين لدعم خطة الغزو المكثف لعدوه الشيوعى، وتحقق هدفه بتحرك سريع وعملى داخل البرلمان الإنجليزى لدعم هذه الخطة من خلال تشكيل لجنة برلمانية تدرس آليات المساهمة فى وضع هذه الخطة موضع التنفيذ، وفى أمريكا نفسها سارعت وكالة التنمية الدولية (USAID) لتقديم منحة قدرها 300 ألف دولار موجهة لما عرف ببرنامج الديمقراطية، وتم إنشاء مجلس تنفيذى لهذا البرنامج من أعضاء حكوميين مشاركين فى وضع السياسات الأمريكية وآخرين من صانعى السياسات الخارجية (مفكرين وإعلاميين)، وبدوره أوصى المجلس التنفيذى لبرنامج الديمقراطية بإنشاء مؤسسة خاصة تضم ممثلين عن الحزبين الجمهورى والديمقراطى وتكون غير هادفة للربح تحمل اسم «وقفية الصندوق الوطنى للديمقراطية» (NED)، وعلى الرغم من أن هذه المؤسسة غير حكومية إلا أنه تقرر أن تمول من خلال اعتماد حكومى سنوى وتخضع لرقابة الكونجرس الأمريكى وتكون مهمتها الأساسية تقديم المنح وتوزيع الأموال على المنظمات التى تنشئها الأحزاب السياسية ومجتمع رجال الأعمال والمعاهد الإقليمية والدولية للحركات العمالية (النقابات) فى الدول المستهدفة على مستوى العالم. وأنشئت (نيد) تحت قانون دائرة الإيرادات الداخلية الأمريكى وتحمل الرقم الكودى 501 C (3) وتولى رئاستها مساعد سابق لوزير الخارجية يدعى «جون ريتشاردسون» وشجع ظهور (نيد) وانطلاقها إنشاء عدد كبير من المؤسسات التابعة والمشابهة. (3) ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكون المعركة الأولى التى تخوضها «نيد» وهى تتجمل بشعارات نشر الديمقراطية هى نفسها المعركة التى تكشف ازدواجيتها وقبح وجهها الحقيقي، وكانت أرض هذه المعركة هى أفغانستان التى تحتلها فى هذا التاريخ (1984) الجيوش السوفيتية وحليف أمريكا الرئيسى بن لادن الذى تولت «نيد» التنسيق معه ودعمه باعتباره مناهضا للشيوعية ومحاربا من أجل الحرية، وتم طبع صورته على تى شيرتات تحمل عبارة (ادعموا المقاتل الأفغانى من أجل الحرية.. إنه يقاتل من أجلكم)، كان هذا قبل أن تستنفد أمريكا أغراضها من الرجل الذى انتهى دوره بطرد السوفيت من أفغانستان وتبدأ فى مطاردته لينتهى أمره باغتياله وإلقاء جثته لتأكلها أسماك البحر. وفى بلاد أخرى بعيدة عن أفغانستان فى أمريكا الجنوبية وفى تاريخ آخر (بداية الألفية الثانية)، قدمت «نيد» دعمها المالى واللوجيستى لمعارضى الرئيس الفنزويلى «هوجو شافيز» وقادت محاولة انقلابية ضده بدأت بإطلاق قناصة مجهولين رصاص بنادقهم على مظاهرة مؤيدة لشافيز ضد المعارضة الممولة من أمريكا بمليونى دولار، ووقفت البارجات الحربية الأمريكية على شواطئ فنزويلا تقدم المعلومات للانقلابيين وتهدد استقلال وحرية الشعب الفنزويلى لأن رئيسه تمرد على السياسات الأمريكية والشركات العالمية التى تنهب ثروات بلاده وهاجم ازدواجية أمريكا التى تحارب الإرهاب بالإرهاب. (4) وأغرت نجاحات «نيد» الرئيس جورج بوش بأن يأمر برفع ميزانية «نيد» عام 2004 إلى 800 مليون دولار وهو يعلن أن مهامها الجديدة سوف تركز على تشجيع الانتخابات الحرة واقتصاد السوق وحرية الصحافة والنقابات فى الشرق الأوسط، مادحا إنجازات هذه المؤسسة التى قدمت خدمات حيوية خلال الحرب الباردة، وحدد مهماتها بدءا من هذا التاريخ فى دعم الحرية وفى الحرب على الإرهاب، وتحركت «نيد» تنثر دولاراتها على مؤسسات المجتمع المدنى فى الشرق الأوسط وتحديدا فى الدول العربية سواء عن طريقها مباشرة أو من خلال المؤسسات التابعة التى تتبنى تنفيذ نفس البرامج وتقدم أيضا تمويلاتها للمجتمع المدنى وهى: 1- المعهد الديمقراطى للشئون الدولية (NDI)، 2- والمعهد الجمهورى الدولى (IRI) وكان لهما تمثيل رسمى من خلال مكاتب عاملة فى مصر، وهو ما أثار ضجة منذ سنوات قليلة بعد الكشف عن ذلك، 3- اتحاد نقابة التجارة الحرة (FTUI)،4- مشروع المركز الدولى الخاص المشهور باسم (انتربرايز). وللحديث بقية..