تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة والعشرون على رحيل أستاذنا عالم الاجتماع الأشهر د. سيد عويس.. ورغم المكانة العلمية المرموقة التى احتلها الرجل عبر مسيرته البحثية المشهودة فى خدمة المجتمع العربى بصفة عامة والمجتمع المصرى على درجة الخصوص، وإسدائه مساهمات جليلة فى النهوض بهذا المجتمع والارتقاء به، ووصفه على قدم المساواة مع أرقى مجتمعات العالم المتحضر ليعود إلى سابق عهده مصدرًا للمعطيات الحضارية التى استمدها المجتمع المصرى مما واكبه من حضارات عمرها تجاوز آلاف السنين.. رغم كل هذا فقد أغفلت كل الجهات الرسمية وغير الرسمية التى يجب أن تعنى بإحياء ذكراه سواء كانت جهات علمية كمراكز البحوث الاجتماعية التى كان د. عويس أحد أقطابها، وقد امتلأت مدرجاتها بتلاميذه الذين أصبحوا أساتذة وروادا يحملون راية هذا المفكر الجليل فى نشر العلم المستنير وماله من انعكاسات إيجابية على أفراد المجتمع فى وطننا العربى نهضة وازدهارًا.. ومن الغريب أن وسائل الإعلام المختلفة مرئية ومسموعة رأت جميعها أن تحتفل بذكرى راقصة رحلت أو تحتفى بمولد مطربة من مطربات هذه الايام ممن نشرن صنوفا من الإسفاف والابتذال، أفسد المجتمع وأفقدنا موروثه القيمى الذى ساهم فى ترسيخه وتكوينه د. عويس وأترابه من أبناء جيله الذى نسيهم المجتمع أو تناساهم فى غمرة حياتنا التى أصبح يميزها كل ضحل وتافه وما لذلك من انعكاس على المثل العليا والقيم النبيلة وكلاهما تحطم على صخرة الجحود والنكران.. وإذا كانت قائمة الدراسات البحثية فى علم الاجتماع للدكتور سيد عويس تزدحم بكل ما هو قيم وراق فإننا فى ذكراه نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر دراسته الرائعة والأكثر انتشارًا وذيوعا من بين دراساته والتى نشرها تحت اسم «هتاف الصامتين» والتى رصد من خلالها ما يكتبه العامة والبسطاء على سياراتهم «النقل والأجرة» من كلمات لا تخلو من طرافة حتى يظنها المتابع لها لونًا من خفة الظل التى أقرها د. عويس كإحدى السمات الأساسية للشعب المصرى وتصير أكثر تدفقا وفعالية حينما تلم به المصاعب فى حياته وما أكثرها لتؤكد كم كان وسيظل هذا الشعب عظيمًا حتى فى ظروفه العصيبة والتى جعلت منه شعبيًا صبورًا يفلسف الأشياء وفق ما يحقق احتماله لهذه الظروف ومن هنا كانت استمرارية عظمته التى صنعت حضارة تلو حضارة لتضعه فى مقدمه الشعوب رغم المعاناة والمشقة.. ومما ورد فى هذه الدراسة ما كتب على إحدى ناقلات الشحن المرسيدس «ما تبصليش بعين ردية.. بص للى إدفع فيه.. أنا من ألمانياالغربية ودلوقت من الدقهلية»، وقد تمر هذه الكلمات مرورًا عابرًا على من يتابعها ولكن بشىء من التدبر نرى أن كاتب هذه الكلمات يخشى الحسد شأنه شأن كل المصريين فضلا عما تفصح به الكلمات عن خلفية ثقافية فطرية ألهمته أن المرسيدس صناعة ألمانية كما تظهر مشاعر الانتماء الأصلية التى تتمثل فى أن سيارته صارت مثله هى الأخرى دقهلاوية.. ورغم ما فى هذه اللفتة من طرافة الا أن العمق الذى يبدو من بين سطورها يؤكد سمات لهذا الشعب مازالت تسكن وجدانه لآلاف السنين.. وقد تضيق المساحة بذكر كل ما ورد فى دراسة د. سيد عويس والذى ينطق عنوانها «هتاف الصامتين» رغم بساطته إلا أنه يحتوى على بلاغة تجسد عمق الدراسة وأهميتها.. وهنا نتساءل: لو كان د. سيد عويس حيا بيننا فى هذه الأيام ترى هل كانت تستوقفه ما استجدت من ظواهر سلبية خلال قرابة الربع قرن هى مدة فراقه منذ انتقاله للرفيق الأعلى؟.. أعتقد أن الإجابة هى نعم خاصة فى هتاف جديد مستحدث هو هتاف الساخطين وخير مثال يبرزه هو ما انتشر من أمثال شعبية تعكس حالة السخط التى طفت على سطح المجتمع المصرى فى الآونة الأخيرة وبدلا من أن يبث المثل الشعبى روح التفاؤل وبعث الهمم أصبح يترجم حالة مغايرة تمامًا ذات نوايا سلبية ترسخ فقدان الثقة وتبعث على تزكية مشاعر الحقد والضغينة.. ومن هذه الأمثال.. «لوشفت الأعمى كل عشاه ما أنت أحسن من اللى عماه» وللمثل نظير من بلاد الشام يقول «لو شفت الأعمى طبه ما إنك اكرم من ربه» والمثلان يحثان على اللصوصية بدلًا من أن يجد هذا الأعمى عونًا، ومساعدة ممن يراه رحمة بما ابتلاه الله أن جعله فاقدًا للبصر.. ومثل آخر رغم طرافته فإنه يحمل من سوء الظن ما يفسد هذه الطرافة ومنطوقة «لو الولد طلع لخاله هنيا له وإن طلع لعمه يا سواد ليل أمه» وتفسير المثل سوف نتركه لفطنة القارئ حتى لا نقع تحت طائلة قانون الآداب، ومن الأمثال التى تدعو للخنوع والضعف ما تقول «اللى ما تقدر توافقه.. نافقه» وبنفس المعنى «الايد اللى ما تقدر تقطعها بوسها»، أما الأمثال التى تدعو إلى السلبية فمنها «أردب ما هو لك ما تحضر كيله.. تتعفر دقنك وتتعب فى شيله»، وكذلك منها «آخرة المعروف.. الضرب على الكفوف» ومن الامثال التى تدعو إلى الحرص وتتناقض مع قيم الكرم ما يقول «الضيف أول ليلة بدر بدور وثانى ليلة فانوس منور وتالت ليلة عفريت مصور.. إذا كانت هذه الأمثال تحمل من السلبيات ما يتعارض والقيم التى اشتهر بها الشعب المصرى فإننا يجب أن نأخذها على سبيل الطرائف خاصة وأنه ينقصها التحليل العلمى الذى يدرس بواعنها الحقيقية وهنا نقرر افتقادنا لعالمنا الجليل د. سيد عويس الذى كان يمكن أن يجعل منها دراسة قيمة تضاف إلى دراساته البحثية الرائعة ولعل أحد تلاميذه يقوم بهذه المهمة وفاء لاستاذه وإثراء لهذا اللون من الأبحاث الشائعة والتى تعود بالفائدة على مجتمعنا المصرى. رحم الله العالم الراحل د. سيد عويس.