أنهى رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية الحرب الباردة مع جنرالات الجيش بفوز كاسح إذ وظف دهائه السياسى الكبير فى تفويت الفرصة على كبار قادة القوات المسلحة فى إسقاط أنقرة إلى بئر الصراعات والتمزق السياسى.. وهذا ما دفع المحلل التركى «جنكيز كاندار» إلى التأكيد فى سياق حديثه إلى صحيفة «نيويورك تايمز» أن الأيام التى كان فيها للجيش التركى كلمة عليا قد ولت، فهناك معادلة جديدة فى سياسة البلاد، وأى شخص يعتمد على الجيش لكسب نقاط فى قضية سياسية الآن عليه أن ينسى هذا الأمر. وربما تعبر هذه الكلمات عن حقيقة الوضع فى تركيا حاليا، حيث مثلت استقالة قائد القوات المسلحة التركى، إلى جانب قادة القوات البرية والبحرية، الفصل الأخير من صراع حزب العدالة والحرية بقيادة أردوغان مع الجيش، هذا الصراع الذى انتهى بفوزه بالضربة القاضية، حيث كان يعتقد أن قرار استقالة كبار الضباط سيغرق البلاد فى فوضى، إلا أن القضية حلت فى غضون ساعات قليلة بتعيين الجنرال نجدت أوزال لتولى منصب القائم بأعمال رئيس هيئة الأركان. لذا، يمكن القول بأن ما حدث يعد منعطفا تاريخيا مهما فى العلاقة بين الجيش والسلطة المدنية فى تركيا، ولكى يمكن تفسير القضية بشكل موسع لابد من الإشارة للوضع الذى كان يحظى به الجيش داخل الدولة، فقد كان يتمتع بحصانة مطلقة، وكان يتمتع بكل أنواع الحقوق، لدرجة أن تصريحات رؤساء هيئة الأركان فيما يتعلق بالشأن السياسى كانت تؤخذ بعين الاعتبار أكثر، وتعتبر أهم بكثير من تصريحات رؤساء الدولة، ورؤساء الحكومة، وما كان منهم إلا أن يقبلوا هذا الوضع، وإلا كان المصير قيام الجيش بانقلاب، وهو ما حدث مرارا كلما اعتقد الجيش أن زمام الأمور بدأ يفلت من يده لصالح أية حكومات وخاصة إذا كانت إسلامية. حيث كان الجيش يدير الأمور من منطلق أنه وريث التقاليد الأتاتوركية وقيمها، والمسئول عن حماية الدولة العلمانية الحديثة، واستمر هذا الوضع إلى أن جاء حزب العدالة والتنمية الذى تأسس عام 2001، وقلب الطاولة، إذ استطاع أن يحصل على أعلى نسبة من الأصوات 47% فى الانتخابات البرلمانية عام 2002، ونجح فى تقديم خطاب ديمقراطى حرص على عدم تسمية ايديولوجيته بالإسلامية، واتبع نهجا سياسيا توافقيا مع مختلف القوى السياسية التركية، ولكن رغم ذلك، اتهم قادة الجيش الحزب بإخفاء أهدافه الإسلامية، وأنه يعمل على « أسلمة» المجتمع التركى، وكانوا يرون فيه خطرا يهدد العلمانية التركية، ويعمل على تقويض دور الجيش، وكانت بداية الصراع بين الجانبين، عندما حاول قادة الجيش منع وصول عبد الله جول إلى رئاسة الجمهورية، حيث طعنت المحكمة الدستورية فى قانونية الحزب الحاكم، لكن المحاولة فشلت بعد أن دعا أردوغان إلى انتخابات مبكرة عززت نتائجها شعبية الحزب وقوته، وكانت نقطة النجاح الأولى للحزب وصول جول إلى رئاسة الجمهورية، ثم انتقل الصراع بين الحزب والجيش إلى العلن، بعد اتهام كبار ضباط الجيش بالتدبير والتخطيط لمحاولة انقلاب على الحكومة، والانتماء لمنظمة سرية تدعى «ارجينيكون»، بعدها جاءت التعديلات الدستورية التى قام بها الحزب والتى شملت 26 بندا تضمنت الحد من صلاحيات الجيش، والسماح بمحاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية، مما أضعف أكثر من قوة الجيش، وكانت النهاية مع استقالة كبار قادة القوات المسلحة احتجاجا على رفض أردوغان ترقية الجنرالات المعتقلين فى السجون بتهمة الانتماء لمنظمة «أرجينيكون» والمشاركة فى مخطط «المطرقة الثقيلة» الذى كان يستهدف الإطاحة بحكومة أردوغان الأولى عام 2003.