يجب أن يعلم الجميع أننا فى مرحلة استثنائية تتطلب إجراءات عاجلة للخروج من تلك المرحلة الانتقالية والوصول بالبلاد إلى بر الأمان والمتمثل فى الاستقرار السياسى والاقتصادى تمهيدا لإعادة تشكيل البرلمان الجديد بانتخابات حرة نزيهة تحت إشراف قضائى كامل، وتعيين حكومة مختارة بإرادة شعبية.. والمعنى أنه لم يكن هناك داع للتعثر الذى شهده التعديل الوزارى الأسبوع الماضى، فالحكومة الحالية هى حكومة تسيير أعمال.. مهمتها إدارة العمل اليومى فى البلاد طوال الفترة الاستثنائية والتى يتوقع ألا تزيد على ثلاثة أشهر فقط، حيث من المحتمل أن تنتهى الانتخابات البرلمانية فى أكتوبر القادم، ومن بعدها انتخابات الرئاسة فى ديسمبر. ولكن يبدو أن د. عصام شرف كان حريصا على إرضاء الجميع، خاصة الشباب المعتصمين فى ميدان التحرير حتى أنه اضطر للاستغناء عن بعض العناصر الجيدة التى رشحها بنفسه للوزارة، بل وصل الأمر لإلغاء المنصب ذاته.. كما حدث فى وزارة الآثار. لقد بدا الأمر وكأن د. شرف كان بين نارين، الأولى إرضاء المجلس العسكرى باختيار عناصر جديدة تتمتع بالرؤية السياسية والكفاءة المهنية لحسن إدارة العمل اليومى فى البلاد فى تلك المرحلة الحرجة، والثانية هى إرادة شباب التحرير وبعض القوى السياسية الأخرى التى علا صوتها وقويت شوكتها بعد الثورة والذين أصروا على استبعاد كل من كان ينتمى للنظام السابق ولو بالشبهة، خاصة بعض أعضاء الحكومة القدامى ومنهم وزراء المالية والعدل والداخلية والتعاون الدولى والكهرباء والبيئة! على أية حال.. وبعد ولادة متعثرة.. واعتذارات كثيرة.. وموافقات مشروطة أو مترددة.. ظهر التشكيل الحالى للوزارة.. والذى ضم - رغم كل ما حدث - عناصر وطنية مشهود لها بالكفاءة والخبرات الطويلة فى مجالات عملها، أولهم د.حازم الببلاوى نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية وزير المالية.. فكل من له علاقة بالاقتصاد فى مصر يعلم من هو د.الببلاوى.. والذى اضطر للعمل بالخارج بعد أن أهمله النظام السابق ورفض الاستفادة من خبراته المتراكمة ورؤيته الواسعة التى أفصح عن بعضها فى مقالاته التى أمتعنا بها فى جريدة الأهرام أسبوعيا، ولكن مشكلة د. الببلاوى فى قصر الوقت المحدد له فى الوزارة.. فهل ستتاح له الفرصة لإعادة النظر فى أوجه الدعم الحالية كما كان يطالب من قبل؟، وهل سيعيد النظر فى الموازنة العامة الحالية والتى بدأ العمل بها مع بداية الشهر الحالى؟ وإذا كان د. الببلاوى قد أفصح عن رأيه فى ضرورة الاستمرار بالعمل بالنظام الاقتصادى الحر والمنفتح على العالم وأن القطاع الخاص هو قائد التنمية فى الاقتصاد القومى.. فماذا سيفعل لترشيد العجز فى الموازنة.. أو تخفيف عبء معدلات البطالة المرتفعة على قوى العمل فى المجتمع.. وغيرها من المشكلات الاقتصادية المزمنة التى باتت معروفة للعامة قبل المتخصصين من كثرة الكتابة عنها؟ والثانى هو د. أحمد جلال وزير الصناعة والتجارة والذى قبل المنصب باعتباره مهمة وطنية وتكليفا لا يجوز الاعتذار عنه كما كان يفعل من قبل فى السنوات الماضية، ود.جلال خبير دولى معروف عمل لفترة طويلة فى البنك الدولى، ثم أدار المركز المصرى للدراسات الاقتصادية لأكثر من ثمانى سنوات، وعاد للبنك مرة أخرى ولكن لفترة قصيرة، حيث اختير مديرا لمنتدى البحوث الاقتصادية، وله العديد من الكتب والأبحاث والدراسات بعضها حول تجارب الاصلاح الاقتصادى فى دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول الأفريقية، كما شارك بفاعلية فى مؤتمرات الحوار الوطنى والوفاق الوطنى التى شهدتها مصر فى الشهور القليلة الماضية. ومشكلة د. جلال أيضاً فى الوقت المتاح للحكومة الحالية.. وإن كنت أعتقد أنه سيعيد الكثير من الأمور إلى مسارها الصحيح، فضلا عن وضع اللبنات الأساسية للنهوض بالصناعة المصرية وإصلاح القطاع التجارى المصرى داخليا وخارجيا. وتضم الوزارة أيضا من المجموعة الاقتصادية د. جودة عبد الخالق وزير التضامن الاجتماعى وهو يسارى الهوى اشتراكى الفكر.. وذو عقلية علمية مرتبة ورؤية سياسية واضحة وهو منحاز بحكم نشأته وتكوينه العلمى وفكره السياسى إلى الفقراء ومحدودى الدخل من أبناء المجتمع، وقد حاول ولا يزال البحث عن أفضل الطرق لوصول الدعم إلى مستحقيه، وترشيد أوجه الدعم الأخرى التى يستفيد منها الأغنياء قبل الفقراء. كما تضم المجموعة الاقتصادية أيضاً سيدة وحيدة فى الوزارة الجديدة هى السفيرة القديرة فايزة أبو النجا والتى استطاعت بجهد فردى أن تعيد المياه إلى مجاريها فى العلاقات مع العديد من الدول الأفريقية، خاصة الأعضاء فى تجمع حوض النيل، كما أنها نجحت فى الحصول لمصر على الكثير من المعونات والمساعدات الخارجية ولكنها لم تكن مسئولة - للأسف - عن سوء استخدامها. *** من ناحية أخرى - وبعيدا عن المجموعة الاقتصادية - ضمت الوزارة الجديدة د.على السلمى نائب رئيس الوزراء للشئون السياسية.. والذى تولى منصب وزير التنمية الإدارية فى بداية الثمانينيات.. وقد كان د.السلمى حريصا فى السنوات الماضية على المشاركة السياسية والاجتماعية فى جميع الفعاليات والمؤتمرات العامة والمتخصصة، ومن ثم كان متابعا جيدا لما يحدث فى الشارع المصرى، فضلا عن عضويته النشطة فى حزب الوفد.. ودوره المعروف بالمشاركة فى إعداد العديد من مشروعات القوانين والوثائق الدستورية التى أعلن عنها مؤخرا. وهناك أيضاً د. عمرو حلمى وزير الصحة وهو ناشط سياسى معروف منتمى لحزب الكرامة وكان أحد رواد التحرير طوال فترة الثورة، وكذلك وزير التنمية المحلية المستشار محمد عطية نائب رئيس مجلس الدولة السابق وصاحب الحكم الشهير بمنع تصدير الغاز إلى إسرائيل. ولكنى توقفت عند وزير الخارجية الجديد السفير محمد كامل عمرو والذى كان يمثل مصر فى البنك الدولى لمدة طويلة.. وكنا نلتقى به فى زيارتنا السنوية لواشنطن مع وفد بعثة طرق الأبواب والتى تنظمها الغرفة الأمريكية بمصر، وقد خرج الرجل على المعاش منذ ثلاث سنوات.. والمعنى أنه كان بعيدا إلى حد ما عن الأحداث وعن متابعة العمل فى وزارة الخارجية بسبب الغياب الطويل عنها. *** ولقد أبقى التعديل على مجموعة من الوزراء السابقين منهم وزير العدل المستشار محمد عبد العزيز الجندى والذى تولى منصب النائب العام من قبل، حيث أعاد الاحترام والشموخ لأعضاء النيابة العامة، وبعد خروجه على المعاش كان حريصا على المشاركة فى المؤتمرات والندوات المختلفة، حيث كان يعلن عن رأيه صراحة.. وهى الصراحة التى لازمته أيضاً بعد اختياره وزيرا للعدل.. والتى قد تبدو وكأنها تعبر عن ثأر بايت بينه وبين النظام السابق وأركانه.. فهو كثير التصريحات عن المحاكمات والعقوبات التى تنتظر الرئيس السابق وأعوانه وقد لا يتفق البعض معه فى ذلك.. بحكم أنه وزير للعدل يجب أن يكون متحفظا فى آرائه مقلا فى تصريحاته. أما د. حسن يونس.. فهو رجل مهنى بحت يتمتع بخبرة كبيرة فى مجال عمله وهو قطاع الكهرباء ويكفيه أنه تصدى لحيتان البيزنس فى مصر، والذين حاولوا بكل الطرق تعطيل البرنامج النووى المصرى والاستيلاء على منطقة الضبعة بحجة تهديدها للأنشطة السياحية التى يمارسونها! وكذلك اللواء العيسوى وزير الداخلية الذى أثبتت الأيام القليلة الماضية أنه يتمتع بالرؤية والحزم المطلوب لإدارة قطاع الأمن فى مصر وإعادة الهدوء إلى الشارع المصرى، ومن ثم لم أفهم لماذا كان يعترض عليهما البعض بحجة أنهما من فلول النظام السابق وهى تهمة هما براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. *** لقد تمت ولادة الوزارة الجديدة بنجاح حتى الآن.. رغم ما شهدته من تعثر وكل ما نأمله أن يحبو المولود بسرعة فى الأيام القليلة القادمة.. فالوقت قصير والمهام كثيرة.. والله الموفق.. وهو على كل شىء قدير.