بعد حوار مجتمعى استمر طيلة الشهرين الماضيين، اعتمد المشير محمد حسين طنطاوى – رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة - مؤخراً الموازنة العامة للعام المالى 2011/2012 بعد الموافقة عليها من مجلس الوزراء.. لكن على الرغم من حالة الرضا التى تحققت حول بنود المشروع الحكومى الأخير للموازنة، إلا أنه بمجرد أن أعلنت وزارة المالية عن تفاصيل الموازنة النهائية تصاعدت الاحتجاجات الفئوية عما خرجت به هذه الموازنة بحجة أنها خرجت بصورة غير عادلة بحيث يترتب عليها مكاسب لبعض الأطراف وخسائر للأطراف الأخرى. وبغض النظر عن الرابحين والخاسرين، اشتملت الموازنة العامة للعام المالى الجديد على إجمالى مصروفات قدره 491 مليار جنيه بزيادة 15% عن المتوقع للعام المالى الحالى، فى حين بلغت الإيرادات 349.6 مليار جنيه، ليكون العجز 134.3 مليار بنسبة 8.6% من الناتج المحلى واستحوذ الإنفاق على البعد الاجتماعى بالموازنة الجديدة حوالى 54% من إجمالى المصروفات، رغبة من الحكومة فى إرضاء محدودى الدخل. وإنه بقراءة أرقام الموازنة، يتضح أن الزيادة فى الانفاق هى السمة الغالبة على كافة بنود موازنة 2011/ 2012، لكن نسبة هذه الزيادات تباينت فيما بين البنود بما يحقق أهداف السياسة المالية، التى تتمثل فى رفع معدلات النمو الاقتصادى بشكل يتوازن مع الحدود المطلوبة لاستيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل، وتخفيف الضغوط التمويلية والتضخمية فى الاقتصاد المحلى، واستعادة الاتجاه النزولى لمعدلات العجز والدين مرة أخرى والوصول بهما إلى معدلات آمنة فى الأجل المتوسط. كما تستهدف الدولة من الموازنة الجديدة، وفقا لوزارة المالية العمل على إتاحة موارد كافية تسمح بإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام، بحيث يتم توجيه موارد أكبر للتنمية وللإنفاق على المجالات ذات المكون الاجتماعى المرتفع مثل الصحة والتعليم، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين جودة الحياة للمواطن، ومن دون أن يكون لذلك تبعات مالية سلبية على الأجيال القادمة. وقال وزير المالية إن هناك جملة من التحديات تواجه السياسة المالية لمصر الثورة يأتى على رأسها تعرض مسارات ضبط عجز الموازنة وأرصدة الدين لأجهزة الموازنة العامة لعدد من الاضطرابات نتيجة للآثار المرتبطة بالأزمات العالمية على الصعيدين الاقتصادى والمالى، وتباطؤ معدلات النمو المحلى وبالتالى قدرة الاقتصاد على توليد فوائض تغذى الحصيلة الضريبية، بجانب بقاء البطالة عند معدلات مرتفعة. وأضاف أن الاقتصاد سيعانى خلال الفترة الحالية من زيادة الضغوط الإنفاقية على الموازنة العامة، المترتبة على المطالبات الفئوية من جانب، ومحاولة الحكومة تدارك تحقيق قدر واف من العدالة الاجتماعية من خلال برامج إصلاح فى الأجور والمعاشات، وزيادة الإنفاق الاجتماعى فى مجالات الصحة والتعليم من جانب آخر، فضلا عن الارتفاعات المتعاقبة فى الأسعار العالمية للسلع الأولية، خاصة الغذاء وانعكاس ذلك على معدلات التضخم المحلى. هكذا جاءت الموازنة العامة لتعبر عن آمال البعض وتصيب طموحات آخرين فى مقتل، ففى الوقت الذى بلغت فيه جملة مخصصات قطاع التعليم 52 مليار جنيه بزيادة 10% عن الموازنة المعدلة للعام المالى الحالى، وارتفعت مخصصات قطاع الصحة بنسبة 17%، لتبلغ 23,8 مليار جنيه، فيما حاز قطاع الإسكان والمرافق المجتمعية على زيادة فى مخصصاته قدرها 39% إلى لتصل إلى 16,7 مليار جنيه. ولكن يمكن القول بأن فئة العاملين فى الحكومة وأصحاب المعاشات هم أكثر الرابحين من هذه الموازنة، لما تضمنته من آليات حماية اجتماعية جادة لهم، حيث بلغت جملة مخصصات الأجور حوالى 118 مليار جنيه بزيادة 22% عن المتوقع خلال العام المالى الحالى، فضلا عن أن هذه المخصصات شملت تكلفة العلاوة الخاصة بنسبة 15% للعاملين بأجهزة الدولة بتكلفة إجمالية 3 مليارات جنيه تقريباً. كما تضمنت الموازنة تكلفة تمويل المرحلة الأولى من برنامج إصلاح الأجور فى الجهاز الحكومى حيث تم إقرار رفع أقل نسبة للأجر المتغير للعاملين بشكل غير مسبوق من 75% إلى 200%، وهو ما يصل بالأجر الشامل لموظف الدرجة السادسة إلى 684 جنيها تقريباً، وذلك اعتباراً من راتب شهر يوليو 2011. ويستفيد من هذا الإجراء حوالى 2 مليون موظف من العاملين بالدولة بتكلفة إجمالية تبلغ 9 مليارات جنيه سنوياً، ويحقق هذا الإجراء تقليلا فى الفوارق غير المقبولة بين ما يتقاضاه شاغلى نفس الدرجة المالية فى الجهات المختلفة. هذا، وقد حظى أصحاب المعاشات على النصيب الأكبر فى الاعتمادات الخاصة الجانب الاجتماعى فى هذه الموازنة، حيث تمثلت فى زيادة المعاشات بنسبة 15% اعتباراً من أول أبريل 2011 محسوبة على إجمالى قيمة المعاش وليس معاش الأجر الأساسى فقط، حيث إن ما قامت الحكومة بتطبيقه يعتبر سابقة تحدث لأول مرة أنه هدفت الحكومة من وراء ذلك المساعدة فى رفع قيمة المعاشات الإجمالية، ليتمكن أصحابها من مجابهة أعباء الحياة وتحسين ظروف معيشتهم، وستتحمل الخزانة العامة بإجمالى تكلفة هذه الزيادة، والتى بلغت 6.5 مليار جنيه ويستفيد منها 8 ملايين صاحب معاش ومستفيد. لم تتوقف مكاسب أصحاب المعاشات عند هذا الحد، بل تستمر المكاسب عندما تعتمد الموازنة الجديدة صرف فرق زيادة المعاشات المقررة فى 2008 لتكون بنسبة 30% بدلاً من 20%، وذلك بدون حد أقصى – كان مقرر ب 100 جنيه فى حينها- وذلك لتحقيق المساواة بين أصحاب المعاشات والمستحقين عنهم والعاملين فى الدولة، وتبلغ تكلفة هذه الزيادة 2,8 مليار سنوياً يسيفيد منها 7,5 مليون صاحب معاش ومستفيد، فضلا عن تخصيص 1,2 مليار لتمويل التكلفة السنوية لزيادة المعاشات، والتى بدأت فى أول يوليه 2010، واستهدفت زيادة المعاشات المنخفضة، التى كانت 40، 50، 60 جنيهاً، ويستفيد منها 3,5 مليون صاحب معاش ومستفيد، وأخيرا، خصصت الخزانة العامة 17 مليار جنيه لصناديق التأمينات الاجتماعية تسددها كفائدة على مديونيتها للصناديق. وبالتالى اتضح جليا أن موازنة الثورة جاءت لتضمن المزيد من الضمانات والمزايا لكل العاملين فى «الميرى» علاوة على أصحاب المعاشات، لكنه فى المقابل يقف من لم يتمكنوا من الالتحاق بوظيفة حكومية ليندبوا حظهم من بنود الموازنة، لما ينتظر أن يترتب عليها من زيادات جهنمية فى الأسعار، وهذا لا يحتاج جهد لإثباته لتعدد التجارب، فإنه بتنفيذ هذه الزيادة سيجد غير العاملين فى الحكومة المزيد من الأعباء على كاهلهم، نتيجة للمتوقع حدوثه من ارتفاع الأسعار، خاصة فى ظل غياب الرقابة الجادة على الأسواق وترهل القطاع الخاص وتفانيه فى مخالفة القوانين بعدم الالتزام بقرارات الحد الأدنى للأجور وخلافه. نحن أمام مشهد مخيف للغاية، فهناك قرابة 6 ملايين مواطن ممن يعملون فى الجهاز الإدارى للدولة سينعمون بزيادات فى الرواتب وقرابة 8 ملايين صاحب معاش ومستفيد ينتظر أن يحصلون على زيادات ملموسة على معاشاتهم خلال شهر أو شهرين، وفى المقابل يجلس أكثر من 20 مليونا من العاملين فى القطاع الخاص يندبون حظهم، فالأسعار فى الأسواق بدأت فى التزايد، ويبدو أن أصحاب الأعمال اتفقوا على أن زيادة الأجور أمر محال فى ظل الظروف الحالية، وأن لسان حالهم يقول:«الباب يفوت جمل». فهل حقا تطبيق الحد الأدنى للأجور على هذه الشاكلة يجعل من وحدات القطاع الخاص أشبه بوحدات الشئون الاجتماعية – كما سبق وأكد السفير جمال البيومى رئيس اتحاد المستثمرين العرب - أم أن الحكومة ستتخذ ما يلزم من إجراءات لإلزام القطاع الخاص بالالتزام بحد أدنى للأجور، ليخرج من السوق من لا يحترم قواعده – كما تؤكد د. هبة حندوسة أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية؟