قليلا ما نجد مصريين يهتمون بدراسة حضارات الدول الأخرى وإلى درجة التعمق والهوس بها، كما يحدث من الأجانب بالنسبة لولعهم وحماسهم بالآثار والحضارة المصرية. وقد تعرضت هذه الحضارة المصرية لغزوات مستمرة لكنها لم تستطع أن تؤثر على طباع شعبها وعاداتهم وتقاليدهم وحياتهم كما يقول العالم الأشهر د. زاهى حواس. ولذلك تجذب الحضارة المصرية عشاق العالم للتاريخ والآثار والحضارات باعتبارها أصل الحضارات. ثارت فى نفسى هذه الخواطر وأنا أقرأ التحقيق الجميل الذى نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» عن رحيل عالمة الآثار الفرنسية «كريستان ديروش» عن 97 سنة قبل أسبوعين. وهذه العالمة أطلق عليها «راهبة المصريات» لولعها الشديد بالآثار المصرية بصورة عامة وآثار النوبة بصفة خاصة، مما جعلها تكافح على إمتداد عشرين سنة عن لإنقاذ معابد النوبة من الغرق تحت مياه النيل التى ستغمرها بعد بناء مشروع السد العالى فى الستينيات وبحيرة السد. كان مشروع السد مشروعا عظيما يكفى أنه أنهى حوادث الغرق التى كانت تحدث كثيرا لقرى الصعيد عندما يأتى فيضان عال يفيض على الجانبين ويدخل بيوت الفلاحين ويغطى أراضيهم ويهلك كثيرا من الماشية والأرواح. ولكن كانت أيضا الآثار المهددة بالغرق بسبب هذا المشروع رائعة مما جعل العالمة «كريستان ديروش» التى صادف أن عاشت فى عصر أحد كبار المثقفين الفرنسيين وهو «أندريه مالرو» وزير الثقافة فى عهد الجنرال شارل ديغول فى حقبة الستينيات وقد استطاعا ديروش ومالرو من خلال منظمة اليونسكو إطلاق حملة عالمية لجمع الأموال الكفيلة بحماية آثار النوبة. وكان نتيجة ذلك الجهد العظيم نقل 14 معبدا من المواقع التى غمرتها المياه، إلى أماكن آمنة. واعتبارا من هذا العمل الذى تحقق فى آثار النوبة بدأت منظمة اليونسكو المشروع الشامل الذى تبنته لتحديد المحميات التاريخية فى العالم وحصر المعرض منها للأخطار والمبادرة إلى حمايتها باعتبارها « إرث البشرية» كلها وليست ملك الدولة التى بها هذه الآثار. وقد لا يعرف الشباب المعاصر أنه إلى جانب المعركة السياسية والعسكرية التى خاضتها مصر من أجل تنفيذ مشروع السد العالى، كانت هناك معركة أخرى كبرى صاحبت تنفيذ المشروع حول إنقاذ المعابد المهددة بالغرق منها معبد أبو سمبل الذى يعتبر من أهم وأشهر معابد مصر الفرعونية وقد أمر ببنائه الملك رمسيس الثانى ويتميز بالإعجاز المعمارى فهو المعبد الوحيد من بين المعابد المصرية الذى بنى بطريقة تتعامد عليه الشمس مرتين فى السنة فى يومى 22 فبراير و22 أكتوبر بامتداد يصل إلى 62 مترا فى داخل المعبد ليصل ضوء الشمس إلى قدس الأقداس. وقد نجحت عملية إنقاذ المعبد عن طريق تفكيك أجزائه بطريقة فنية بالغة هو ومن حوله حيث يوجد معبد صغير آخر كان مخصصا لعبادة الربة «حتحور» وزوجته الملكة « نفرتارى». وبعد فك المعبدين تم رفعهما وإعادة تشييدهما على ربوتين تعلوان عن المكان الاصلى 60 مترا بنفس الاتجاهات الأصلية وتم تنفيذ المشروع بنجاح كبير ولولا هذا النجاح ما أتيح لنا وللعالم ان يشهد المعبد فى مكانه الذى به اليوم. وعودة إلى راهبة الحضارة المصرية وآثارها القديمة فقد استهوت «ديروش» آثار مصر وهى مازالت طفلة عندما قرأت وهى فى السابعة عن اكتشاف هوارد كارتر (عالم آثار إنجليزى) مقبرة الملك توت عنخ آمون عام 1922. وقد أثر فيها كثيرا متابعتها لهذا الكشف إلى درجة جعلتها تتخصص فى المصريات القديمة والآثار الفرعونية، وكانت امرأة تشغل منصب المقيم فى المعهد الفرنسى للآثار الشرقية، كما كانت أول امرأة تقود فريقا للتنقيب عن الآثار، عام 1938. تحقيقا لحبها تعلمت ديروش اللغة العربية بلهجة أهل النوبة الذين أحبتهم وظلت تحتفظ طيلة حياتها، بصداقات فى أوساط عمال الآثار وحراسها ومديرى المتاحف المصرية الذين أحبوها واحترموا مسيرتها التى لم تكن الشيخوخة عائقا أمام جهودها. المعابد الفرعونية لم يكن المعبد فى عصر الفراعنة ويُستخدم داراً للعبادة كما هو الوضع حاليا بالنسبة للمعبد اليهودى أو الكنيسة أو الجامع، وإنما كان بيتا للإله يعبد فيه الإنسان ربه ويقيم له الشعائر والدعوات والتراتيل ويقدم إليه القرابين المختلفة فى المواسم والأعياد. ويقول د. زاهى حواس إن الشعائر كانت تجرى فى صورة صلاة يومية للإله يكلف الملك بإقامتها مما جعل المعبد مكانا خاصا ليس لعامة الشعب بل ملكية خاصة يختص بها الإله وحده. ولذلك بنى الفراعنة المعبد من الحجر وأحاطوه بأسوار عالية لعزله عن العالم الخارجى. وفى الدولة الحديثة حدث تطور كبير فى المعابد، حيث بنيت المعابد الضخمة مثل معبد الأقصر وقد أقامه رمسيس الثانى، ومعبد الكرنك الذى يعتبر أضخم المعابد الموجودة فى مصر.