فى حلقة الأسبوع الماضى أكد السفير بسيونى أن الرئيس السادات كان يقوم بنفسه بخداع الموساد، بتقديم معلومات مغلوطة لمجلس السوفييت الأعلى لعلمه أن تلك المعلومات ستصل لإسرائيل بعد نهاية الاجتماع بخمس دقائق على أقصى تقدير، كما اخترع الرئيس السادات قصة عام الحسم فى 71، وحكاية عام الضباب فى 72، وإعلانه تحرير الأرض فى خريف 73، مما أوقع إسرائيل فى «حيص بيص»، وجعلها تنفق ملايين الدولارات فى عمليات الاستدعاء والتعبئة. ثم توالت المفاجآت فى أول أكتوبر73 عندما تم الإعلان عن تسريح جنود الاحتياط وفتح باب عمرة رمضان، واستقبال وزير الدفاع الرومانى وسفر قائد القوات الجوية لواء طيار حسنى مبارك إلى ليبيا صبيحة الحرب. وقبل الكشف عن أسرار حلقة اليوم لابد من تسجيل كلمة للتاريخ مفادها أن السفير بسيونى يتمتع بذاكرة حديدية، وعقلية منظمة، ونظرات حادة لا تختلف كثيراً عن عين الصقر. يحمل السفير بسيونى الكثير من الأخبار والأسرار، يتكلم حينما يريد، ويرفض الكلام حينما أسأل، من الصعب استدراجه إلى منطقة على غير هواه، ومن المستحيل جره إلى إجابة محظورة، فهو يعرف جيداً حدود المسموح والمحظور، يضع مصلحة مصر العليا فوق رأسه ويحتفظ بالأمن القومى المصرى فى قلبه ويقدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمشاعره ووجدانه.. إنه السفير محمد بسيونى الذى يتابع اليوم قائلاً: عندما قامت حرب أكتوبر كان التنسيق بين مصر وسوريا قد بلغ غايته، ووصل إلى أقصى درجاته، حتى أن الرئيس الأسد فوّض الرئيس السادات فى إدارة المعركة، ومن ثم تم تعيين الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الدفاع ليتولى قيادة القوات المشتركة على الجبهتين المصرية والسورية. ولأن التنسيق أيام الحرب كان أفضل ألف مرة من أيام الوحدة التى انهارت بعد سنوات قليلة من قيامها فقد تقرر - كما جاء فى الخطة بدر التى أعدها اللواء الجمسى رئيس هيئة العمليات آنذاك، والمشير ووزير الدفاع فيما بعد - أن تقوم القوات المسلحة فى كلا البلدين بهجوم مباغت على العدو فى وقت واحد لتشتيت شمله، ودخوله مجبراً إلى عرين الأسد فى محاولة لحصاره، ومن هنا فقد وقعت قوات إسرائيل يوم 6 أكتوبر بين فكى الأسد.. بين مطرقة القوات المسلحة المصرية فى سيناء وسندان القوات السورية فى الجولان. كما وصل التنسيق غايته عندما زار الفريق أول أحمد إسماعيل الجبهة السورية سراً فى أول أكتوبر على طائرة عسكرية من طراز سى 130، ونزل فى مطار المزة - والذى يعد من أكبر القواعد الجوية السورية وأقربها إلى هضبة الجولان. ومن مطار المزة توجه الفريق أول أحمد إسماعيل إلى مقر القوات المسلحة السورية لوضع اللمسات الأخيرة لحين ساعة الصفر، والاطمئنان على الجبهة السورية، ومعاينة الاستعدادات اللوجستية على الطبيعة. ولم يكن التنسيق بين الجيشين المصرى والسورى نظرياً أو على الورق فحسب، ولكنه امتد ليكون على الأرض،وفى مسرح العمليات، وكانت البداية بسرب مقاتلات قاذفة مصرى، يقوده طيار مقاتل مصرى أيضاً لدعم القوات الجوية السورية، وقد ساهم هذا السرب فى درء مخاطر كثيرة عن سماء سوريا، وأبلى بلاءً حسناً فى معارك جوية فاصلة أذهلت خبراء الاستراتيجية فى العالم، وقد استطاع طيار مصرى، وهو المقدم فكرى الجندى بواسطة طائرته الميج 17 من إسقاط طائرة فانتوم كانوا يقولون عنها آنذاك «ملكة الجو»، ولأنى - كما يقول السفير بسيونى كنت ملحقاً عسكرياً فى مركز القيادة السورية أثناء الحرب، وضابط اتصال بين الجبهتين فقد أبلغت هيئة عمليات القوات المسلحة المصرية فى المركز رقم (10) بهذا الإنجاز الذى حققه الطيار المصرى على هضبة الجولان. وقبل اندلاع الحرب بساعات، وبالتحديد فى 9 رمضان الموافق 5 أكتوبر من عام 73، وضع الرئيس السادات النقاط فوق الحروف، وكلّف المشير أحمد إسماعيل فى توجيه محدد، ومزيل بتوقيعه - أى بتوقيع السادات - يؤكد فيه أن الغرض من الحرب هو إزالة حالة الجمود السياسى والعسكرى بكسر وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 6 أكتوبر، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى المعدات والأرواح والأسلحة والعمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية طبقاً لقدرة القوات المسلحة المصرية منفردة أو بالتعاون مع القوات المسلحة السورية. ويؤكد السفير بسيونى أن التوجيه الاستراتيجى الذى أصدره الرئيس السادات يوم 5 أكتوبر تم تنفيذه بالكامل، فتم - كما أكدت معارك حرب أكتوبر المجيدة - تكبيد العدو خسائر كبيرة فى الأرواح والأسلحة والمعدات، حيث تعالت صيحات جولدا مائير طالبة النجدة من الرئيس الأمريكى نيكسون قبل زوال دولة إسرائيل، وتزويدها بقاذفات ومقاتلات بعد تساقط طيرانها كالذباب أمام حائط الصواريخ المصرى، وتزويدها بمدرعات بعد فقدها 400 دبابة فى الأيام الأولى للحرب، ويتابع السفير بسيونى قائلا: لقد شاهدنا جميعاً ضباط وجنود إسرائيل مكبلين فى الدبابات بالسلاسل كما رأيناهم وهم يرفعون رايات الاستسلام يتساوى فى ذلك الجنود والقادة، ومن هنا فقد أنهت حرب أكتوبر أسطورة الجيش الذى لا يقهر على حد تعبير ديان بعد نكسة 1967. وعندما حانت ساعة الصفر - كما يتذكر السفير بسيونى - انطلقت أكثر من 200 طائرة مقاتلة مختلفة الأنواع والأحجام.. ا من القواعد العسكرية المصرية فى وقت واحد لتقصف مطارات العدو فى السر وتمادا والمليز، وخزانات الوقود، وخطوط الإمداد، والمواقع الرادارية والإدارية، ومراكز القيادة فى أم مرجم، وأم خشيب، والطاسة، وبطاريات الصواريخ وباقى وسائل الدفاع الجوى فى بالوظة والجدى. ولمدة 52 دقيقة قامت المدفعية الثقيلة بإلقاء جام غضبها، ولهيب قذائفها لتدك حصون خط بارليف، الذى أنفقت عليه إسرائيل وأمريكا أكثر من 238 مليون دولار ليكون أكثر قوة ومناعة من خط «سيجفرد» الذى أقامته ألمانيا على حدودها مع فرنسا، وأكثر قوة من خط «ماجينو» أيضاً الذى أقامته فرنسا على حدودها مع ألمانيا. وبعد الضربة الجوية التى أفقدت العدو توازنه عبرت عناصر من المخابرات والمهندسين بقوارب المطاط والناقلات البرمائية للتأكد من غلق فتحات النابالم التى قامت الضفادع البشرية بسدها مساء 5 أكتوبر، وإزالة الأسلاك الشائكة، وتطهير المدقات والممرات من حقول الألغام التى كانت بمثابة كتاب مفتوح لعناصر المخابرات المصرية. ثم تحرك على الفور سلاح المهندسين، وقام فى شجاعة منقطعة النظير بفتح الثغرات فى الساتر الترابى لعبور الأسلحة الثقيلة والعربات المدرعة والمجنزرات، وإقامة رءوس الكبارى والمعديات أمام بورسعيد والإسماعيلية والسويس لتنطلق بعدها 5 فرق مشاة إلى الضفة الشرقية للقناة تحت مظلة حائط الصواريخ الذى وصفه موشيه ديان ببذرة الشر، ووصفته جولدا مائير بالغابة. وقد استطاع أفراد المشاة بواسطة صواريخ محمولة على الكتف القضاء على الاحتياطى التكتيكى للعدو قبل وصول المدرعات المصرية للضفة الشرقية، ومن أشهر معارك الدبابات التى وقعت على رمال سيناء ما حدث يوم 8 أكتوبر عندما قام ضباط وجنود الفرقة الثانية مشاة بقيادة العميد أركان حرب حسن أبو سعدة بأسر العقيد عساف ياجورى قائد اللواء 190 مدرع مع مجموعة كبيرة من جنوده وضباطه فى القطاع الشمالى على جبهة الفردان من قناة السويس، والذى وصف يوم أسره بيوم الاثنين الأسود. ومن أعظم الملاحم التى خاضتها القوات البرية، كانت معركة القنطرة شرق التى قادها باقتدار العميد فؤاد عزيز غالى قائد الفرقة 18 مشاة، والقنطرة شرق كانت المدينة الوحيدة التى فشل العدو فى احتلالها عام 67، إلا أنه استطاع - أى العدو - خلال 6 سنوات من إقامة 4 مواقع حصينة لحصارها وضربها من جهة القناة، وأنشأ 3 مواقع أخرى فى شمال البلاح والكاب والتبة ومع تلك التحصينات استطاعت قوات الجيش الثانى تحرير المدينة وأسر 30 فردا من جنود العدو وتدمير 70 دبابة، وإسقاط 17 طائرة، وأسر 4 طيارين بالإضافة إلى خسائره فى الأرواح والمعدات والتى وصلت إلى مئات الجرحى والقتلى وكان يوم 11 أكتوبر يوما مشهودا، حيث رفع العلم المصرى على القنطرة شرق وإسقاط علم العدو إلى الأبد. وما حدث من بطولات فى القنطرة شرق حدث أيضاً فى معركة «تبة الطالية» بالقطاع الأوسط الذى خسر فيها العدو عشرات الدبابات ومئات القتلى، وفشل نظرية المياه الجارية التى حاول العدو من خلالها دفع سراياه لاحتلال التبة، وإنهاك القوات المصرية، وكانت النتيجة تدمير كل تلك السرايا باستثناء دبابتين «سنتريون» استولت عليهما القوات المسلحة الباسلة يوم 21 أكتوبر عندما توهم العدو فى محاولة يائسة وأخيرة أنه بمقدوره تطويق التبة لمحاصرة القوات المصرية من الخلف. أما معركة عيون موسى التى وقعت فى نطاق الجيش الثالث، فكان قائدها العميد يوسف عفيفى قائد الفرقة 19 وكانت ملحمة بكل المقاييس أيضاً لأن العدو اعتبر منطقة العيون دولة داخل دولة لكونه كان ينطلق منها لضرب مدينتى السويس وبور توفيق، ولتحقيق هذا الغرض استعد العدو بتحصينات قوية، ومرابض للدبابات، ومنصات للصواريخ وأجهزة إنذار مبكر، وأسلاك شائكة وحقول ألغام، ومعوقات لا أول لها ولا آخر، ومع كل هذه الموانع نجحت مجموعات من قوات المشاة وعناصر الصاعقة من اقتحام المواقع لتنقض على جنود العدو كالأسود الجائعة، وعندما حاول العدو الاستعانة بسلاح الجو الإسرائيلى لضرب المشاة والعربات المجنزرة والدبابات تصدت له الصواريخ المضادة للطائرات إلى أن أجبر على الفرار بعد تأكده من وقوعه فى فخ مصيدة الموت. وإذا كان بعض الموالين لإسرائيل يحاولون فى كتاباتهم التقليل من شأن حرب أكتوبر، ومن حصون خط بارليف المنيعة التى دمرها المصريون فى 6 ساعات فقد اعترف قادة إسرائيل فى أول أيام الحرب: بأن إسرائيل فى خطر، تأكدوا أنهم فى خطر بعد أن رأوا بأعينهم انهيار خط بارليف تحت أقدام المصريين، شاهدوا استسلام الجنود والضباط، واحتراق الآليات والمدرعات.. رأى قادة إسرائيل براعة التخطيط والتنفيذ، رأوا مقاتلا من نوع جديد، مقاتلاً لا يهاب الموت، ولا يعرف الاستسلام ويبحث عن النصر أو الشهادة، رأوا فرد المشاة يعانق الدبابة بصاروخ على الكتف لتفجيرها وكأنه على موعد معها، رأى مندلر، وجونين، وشارون عناصر الصاعقة المصرية وهى تقاتل بالسلاح الأبيض خلف خطوط العدو عند المضايق.. عند هذه اللحظة انهار قادة إسرائيل وتعالت صيحات جولدا مائير طالبة النجدة من نيكسون وكيسنجر بعد هروب النوم من عيونهم جميعا، وكانت الكارثة عندما طلب ديان التنحى، والانسحاب إلى المضايق، بعد أن قال لها فى انهيار تام: لو لا أنى متأكد من خروج الخبراء السوفييت لقلت إننا نحارب روسيا، وقال صراحة أيضا : إن إسرائيل باتت فى خطر. وعلى الفور كما يقول السفيربسيونى بدأت إسرائيل فى تحضيرالرءوس النووية بتحريك 19 صاروخ أريحا كنوع من الضغط على القوات المسلحة المصرية، وعلى الرئيس الأمريكى نيكسون مع أن إسرائيل كانت على علم بأنها لن تستطيع استخدام تلك الصواريخ أو الرءوس بعد اشتباك القوات المصرية مع القوات الإسرائيلية، فى معارك ضارية، وعلمها يقيناً أن السلاح الذرى فى حالة استخدامه لن يفرق بين مصرى وإسرائيلى، وقد تكشفت الحقائق عندما أنقذت أمريكا إسرائيل.. أنقذتها فى الوقت المناسب بعد أن كانت القوات المسلحة المصرية على مرمى حجر من تنفيذ الأمر العسكرى أو التوجيه الاستراتيجى الذى وجهه الرئيس السادات للمشير أحمد إسماعيل وزير الحربية وهو عبور القناة إقتحام الساتر الترابى، ودك حصون خط بارليف، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأرواح والمعدات ثم الانطلاق شرقا إلى منطقة المضايق لتكتمل سيمفونية، تحرير سيناء بالعرق والدم ثم السلام بعد ذلك. فى الحلقة القادمة لماذا تأخر الرئيس السادات فى تطوير الهجوم ليوم 14 أكتوبر وكيف ساندت أمريكا إسرائيل ثالث أيام الحرب؟ وحقيقة اختلاف المشير أحمد إسماعيل والفريق الشاذلى على تصفية الثغرة.