بدأ اللفظ السياسى والثقافى والصحافى حول الموطن الانتخابى ، فقد تبنى المجلس العسكرى من خلال قانون مباشرة الحقوق السياسية فكرة لم يتوقعها أحدمن السياسيين وهى أن تتحدد الدائرة الانتخابية تبعاً للعنوان المذكور فى بطاقة الرقم القومى، ومعنى هذا ببساطة شديدة أن دائرة مثل دائرة قصرالنيل ستضم أكثر من مائة مرشح من مرشحى البرلمانات القادمة، أما دائرة الدقى فستضم أكثر من مائتى مرشح لأنها تضم بالاضافةإلى الدقى حى المهندسين المزدحم بالقيادات الشعبية الإقليمية التى تثبت فى بطاقة الرقم القومى عنوانها فى العاصمة، وهكذا سوف يضطر كثيرون من الآن إلى البدء فى تغيير محال إقامتهم المثبت فى بطاقة الرقم القومى، وهى خطوة لاتختلف كثيراًعن خطوة اللواء .م.ع. الذى كان مساعداً أول لوزير الداخلية، وعضواً فى نوادى القاهرة الاجتماعية والرياضية ومسئولاً عن ملفات تعليمية وثقافية ومع هذا فقد أثبت فى بطاقته الشخصية أنه فلاح وأنه مقيم بقرية من قرى مصر، ولم يكن هذا اللواء م.ع. واحداً فقط وإنما كانوا قرابة مائة لواء. أنقل القارئ معى والكاميرا فى يدىّ والمحمول فى يد القارئ يصور به ما يريد، وأذهب به إلى العاصمة واشنطن، وأدخل به على بيانات معقدة أعرفها جيداً فإذا به يرى على صناديق البريد فى مداخل إحدى العمارات كروتاً تدل على أن بعض أعضاء البرلمان يقيمون هنا، ونسأل البواب الأمريكى فيقول فى سرعة وببساطة إن كل نائب لابد له من مقر فى العاصمة حتى وإن لم يكن من سكان العاصمة قبل هذا. هكذا نجد وضعا يعترف بالصواب ويشجع عليه، ونجد وضعاً آخر لا يحب الصواب وإنما يعاقب عليه ومن العجيب أننا نعود بالكاميرا إلى سنة 1913 أى قبل 99 عاماً أو حتى 98 عاماً وشهور فنجد سعد زغلول قد رشح نفسه للانتخابات البرلمانية للجمعية التشريعية فى ثلاث دوائر مختلفة، ففاز فى شبرا كما فاز فى السيدة زينب فى الوقت ذاته، لأن هؤلاء كانوا يريدونه، وأولئك أيضاً كانوا يريدونه .. وكأنما أصبح فى وسعه أن يختار الدائرة التى يريدها هو لأنه يريدها، ولأنه يريد شخصاً آخر يحل محله فى دائرة أخرى ومعنى هذا أنه يحجب منافسه الذى جاء بعده فى الدائرة: الأولى بينما يعطى الفرصة لمنافسة الآخر الذى جاء بعده فى الدائرة الأخرى. هل عجز المصريون المحدثون فى القرن الحادى والعشرين عن أن يصلوا إلى ما وصل اليه المصريون الأجداد فى بداية القرن العشرين، أم أننا أصبحنا بحاجة إلى تفكير آخر يتنبه إلى أن العالم أصبح صغيراً جداً بفضل ثورة المعلومات وأنه لم يعد من المناسب أن نعود القهقرى إلى فكرة التمثيل الإقليمى ضيقة الأفق لنسمع عن نائب لم يسمع عنه أحد غير أهل دائرة صغيرة ونظن أن هذا هو التمثيل الأفضل فى مجلس الشعب؟ هل تكفى مصر دائرة واحدة يترشح فيها الجميع أم أن الأمر لايزال بحاجة إلى إيضاح؟ كانت لعبة الدوائر الانتخابية مجالاً لسطوة الحكومة والأحزاب وجماعية الضغط على مدى التاريخ الانتخابى لمصر، ويكفى أن أذكر للقارئ قصة الوزارة الائتلافية التى تشكلت فى 1949 للتمهيد لإجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى عهد اللبرالية (1949) وهى الانتخابات التى اعادت الحق إلى صاحبه وجاءت بالوفد إلى مقاعد البرلمان وإلى تشكيل الوزارة (يناير 1950)، فقد تشكلت هذه الوزارة عقب اقالة الملك لابراهيم عبد الهادى (يوليو 1949) وقبل الوفد لأول مرة منذ 1928 أن يشترك فى وزارة ائتلافية، بل إن الوفد قبل الا تكون له الاغلبية فى هذه الوزارة وأن يعامل كما لو أنه حزب من أحزاب الإقليمية الصغيرة، لكن الخلافات حول تعديل الدوائر وهى اللعبة المفضلة عند أصحاب الحسابات الحزبية الإقليمية، كانت بمثابة الصخرة التى تحطم عليها الائتلاف، وقد أوردت فى كتابى «أعلى مشارف الثورة» قصة الاتفاقات التى تمت من أجل فض الائتلاف والتخلص من إشكاليات الحرص على مرضاة أطراف عديدة على حساب الحقيقة من ناحية أو العدالة من ناحية ثانية أو الإنجاز المرحلى للانتخابات من ناحية ثالثة.. لكننى أشير هنا فقط إلى حقيقة أن فض الائتلاف كان بمثابة الحل الناجز لإتمام الانتخابات عن طريق وزارة محايدة لا تستهدف استرضاء جميع الأطراف، وهنا اؤكد للمصريين المعاصرين الآن أن محاولة استرضاء جميع الأطراف ليست إلا نموذجاً للمحاولة الفاشلة لبلوغ مالا يبلغ، ومما يؤسف له أن كثيرين من الذين وصلوا إلى مواقع متقدمة فى مصر، يظنون أن بإمكانهم أن يقنعوا الشعب الطيب بأن هذا ممكن. وعلى كل الأحوال كما يقول الذين لا يريدون ان يضيعوا وقتهم فى مناقشات جدلية بعيدة عن الواقع فإن النظام المصرى الذى أسقطته ثورة يناير 2011 كان قد توصل إلى مرحلة متقدمة جداً فى هذا الفساد العلنى المعروف بتقسيم الدوائر الانتخابية وعلى سبيل المثال السريع فإن محافظة الشرقية تضم دائرة الحسينية التى يبلغ عدد الناخبين فى جداولها الانتخابية 260ألف ناخب وفى الوقت ذاته تضم دائرتين أخريين تم تفصيلهما خصيصاً لذوى النفوذ فى الوزارة وفى رياسة الجمهورية وهما الدائرة الثالثة ومقرها مركز شرطة منيا القمح ويبلغ عدد الناخبين فيها بتعداد2000 مالايزيد على 116 ألف ناخب أما الدائرة الرابعة ومقرها نقطة شرطة التلينى وهى قرية تابعة لنقطة شرطة وليست مركزاً للشرطة فإنها تضم حوالى 130الف ناخب وهكذا فإن مجموع ناخبى هاتين الدائرتين لايكاد يصل إلى عدد ناخبى الدائرة الرابعة عشرة وهى دائرة مركز شرطة الحسينية. وقل مثل هذا تماماً فى الدائرتين العاشرة و الحادية عشرة ومقرهما مركز شرطة فاقوس ونقطة شرطة أشكر ويدور عدد الناخبين فى كل دائرة من هذه الدوائر حول رقم 135الف ناخب. ومن العجيب أن القاعدة هى هذا التفاوت الرهيب فى أعداد الناخبين فى كل دائرة من هذه الدوائر على مستوى الجمهورية (وعددها 222ناخباً)، ومن المستحيل أن يتم إعادة توزيع الدوائر بعدالة فى ظل هذه الأوضاع الكارثية والأوضاع المتكلسة على مدى السنوات والدورات الانتخابية السابقة. وليس ببعيد عن الأذهان ما قام به ملك الإفساد السياسى قبيل الانتخابات البرلمانية التى جرت فى 2010 فقد حشد مجلس الشعب ليصوت على إعادة توزيع الدوائر بحيث ألغى دائرة أحد نواب المعارضة البارزين وهو النائب الشجاع مصطفى بكرى الذى تصدى له قبل هذا فى مواقف كثيرة، لكن أطرف ما فى الموضوع أن صيحات تعالت فى المجلس يومها من قبيل احقاق الحق فقالت : ألم يكن الأولى إلغاء دائرة المعهد الفنى التى يمثلها يوسف بطرس غالى وزير المالية وهى لاتضم الإ شارعين اثنين فحسب، ومن الطريف أن أحداً لم يذكر فى المجلس أن الدائرة سميت باسم مقرها الذى لم يكن قسم شرطة ولا نقطة شرطة وإنما كان المعهد الفنى ومن الطريف أن هذا «المعهد الفنى» قد تم إلغاؤه وتحول إلى شىء آخر، فهل آن الأوان كى تلغى دائرة بعد هروب نائبها إلى حيث لا يعرف الانتربول نفسه طريقه؟ أم أن الوفاء له ولإجرامه فى حق الشعب يقتضى الإبقاء على الدائرة من أجل عيون حليفه الذى سارت بذكر سطوته الركبان؟ أم أن منير فخرى عبد النور سيحاول النجاح فىهذه الدائرة باعتبارها دائرة صغيرة وباعتباره قريباً ليوسف بطرس غالى، وباعتباره غير قادر على الفوز لا فى موطنه القديم فى الوايلى ولا فى موطنه الأقدم فى الصعيد، وباعتبار أن أمن الدولة قد أوصى فى وصيته التى حررها قبل وفاته بضرورة نجاحه لأنه يمثل المعارضة الباردة التى كان النظام السابق يحبها؟ أليس هذا هو الوضع الكارثى الذى يواجهنا فى هذه الانتخابات التى نظن أننا نستطيع أن نحقق بها آمال الثورة بينما مخلفات النظام القديم لاتزال تسيطر عليها من خلال قصة الدوائر الانتخابية. إننى أعتقد أن الحل السحرى لمشكلة الدوائر (أولاً) ولمشكلة الموطن الانتخابى (ثانياً) معاً بل لمشكلة تصويت المصريين فى الخارج (ثالثاً) يكمن فى أن ننظر إلى مصر على أنها دائرة انتخابية واحدة ينتخب الناخب لها قائمة أو قائمتين أو قائمة ومستقلين لكنه لا يتمتع فى مكان ما بما لا يتمتع به غيره فى مكان آخر، بعبارة أخرى فإن اختيارات الناخب فى أسوان هى ذاتها اختياراته فى الإسكندرية. إننى لا استطيع أن أفهم أننا نريد لمصر مستقبلاً واعداً بينما نحن نقسمها تقسيمات مصلحية ولا أستطيع أن أفهم أننا يمكن أن نتفرق بعد كل هذا التوحد الذى نعيشه بفضل المكوكية وبفضل توحد مشاعرنا فى الثورة وبعدها. إننى أتصور أنه إذا كان عدد أعضاء مجلس الشعب القادم 400 عضو وأراد الاخوان «الذين يمثلون بعبع العلمانيين» أن يثبتوا أنهم لايريدون اكثر من 40% من مقاعد البرلمان حتى إذا حصلوا على 80% من إجمالى الأصوات ومعنى هذا أنهم لا يريدون أكثر من 160مقعداً حتى لو حصلوا على ما يوازى 300 مقعد.. وعندئذ فيمكن لنا من البداية أن نفهم أن قائمة الإخوان لا تضم إلا 160 اسماً فقط بحيث أنها لو حصلت على 25% فقط من الأصوات فإنها لا تستحوذ إلا على 100 مقعد، ولو حصلت على 40% فإنها تحصل على 160مقعداً أما إذا حصلت على 80% من الاصوات فإنها تكتفى ب160 مقعداً فقط وتتوزع المقاعد على الشركاء الآخرين فى الوطن بالنسبة التى يحققونها على مستوى أصوات الناخبين جميعاً. وفى ظنى بحكم دراستى لعلوم الاحتمالات والإحصاء والمنطق الرياضى وتفوقى فيها جميعاً بفضل الله أن هذا هو النظام الأنسب لعهد الثورة الجديد الذى يريد شركاء لا فرقاء والذى لن تنجح مصر فيه لا بالوفاق لا بالشقاق والذى لايمكن لنا أن نحقق فيه هدفاً ذا بال إذا وقفنا عند الأوضاع القديمة المتردية، والتقليدية البالية، والطرق التى قادت إلى الأزمة وهى بالقطع يستحيل أن تقود إلى الحل.