حينما قامت ثورة 1919 كان معلوماً لكل المصريين آنذاك من هم رجالها مثل سعد زغلول ورفاقه مصطفى النحاس ومكرم عبيد وغيرهما، والذى التف الشعب المصرى حولهم داعمين هذه الثورة لتصبح ثورة شعبية على الاحتلال البريطانى بغية الاستقلال، وخضعت الثورة لمقادير خاصة قد تكون سببا لعدم تحقيقها أهدافها المرجوة منها بصورة كاملة، ومن هذه المقادير القصر الملكى وعلى رأس الملك فؤاد الذى كان حديث العهد بالعرش الملكى بعد الإحاطة بالسلطان حسين كامل، وكان فؤاد عبئا على الثوار بدلا من أن يكون عضوا يشد من أزرهم، ولكنها فى النهاية قد خلقت روحا شعبية انطلقت من إحساس قومى تجلت فيه الوحدة الوطنية بين مسلمى مصر وأقباطها حيث شاعت وترسخت الصيحة الخالدة إلى يومنا هذا (عاش الهلال مع الصليب)والتى تكررت فى كل الثورات المصرية، وأعتقد أنها ستظل ما بقى الشعب المصرى ثائرا نحو الحرية والكرامة والإنسانية، والعدالة الاجتماعية على مدى التاريخ وعبر الأجيال. وبعد أكثر من ربع قرن قامت ثورة يوليو وكانت هى الأخرى تشاطر ثورة 1919 فى معظم دواعى قيامها وإن كان هدف ثورة يوليو الأبرز هو القضاء على الحكم الملكى الذى عاق سبل الحصول على الاستقلال فى الوقت الذى نالته دول عربية لا تماثل مكانتها ريادة مصر لوطنها العربى، كما كان ثوار يوليو بقيادة جمال عبد الناصر من شباب القوات المسلحة من عرفوا بتنظيم (الضباط الأحرار) وأصبح حلمهم معلوما لكل الشعب المصرى وقادهم ضابط مصرى كبير مخلص تجرد من كل ما يصم الإنسان من أطماع دنيوية حتى صار هو واجهة الثوار وكان يحمل رتبة لواء ليعطى الثوار ثقلا نفسيا وإنسانيا يدعم الثورة ويضمن لها ولاء الجيش كما كان يتمتع به هذا اللواء الخلوق من حب يسبقه احترام لدى الجيش المصرى وهو الرئيس محمد نجيب الذى تضاعف له الولاء حينما اتحد الجيش والشعب معاً تأييداً للثورة حتى تحقق لها النجاح وانتهى العصر الملكى وتهاوت أركانه وانقضى زمانه لتبدأ مصر عهدا جديدا يتحقق لها من خلاله أحداث كانت هى الأشبه بالأحلام مستحيلة التحقيق ومنها الاستقلال التام وعودة قناة السويس لمصر والتحول الإشتراكى الذى قارب بين الطبقات وانهى ما كان بينها من تفاوت ظالم جائر. وتمضى السنون لتصل إلى ستين عاما لتأتى ثورة يناير الرائعة، ولأنه ظروفها مختلفة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا فقد جاءت مغايرة بمعطياتها الثورية عن سابقتيها فى مطلع القرن الماضى وفى منتصفه 1919 و1952 وأول هذه المعطيات أن هذه الثورة الشبابية قامت لتحررنا من نير المظالم التى اقترفها بعض من أبناء الوطن الذين تولوا أمانة الحكم فى غفلة من الزمن ولم يخلصوا له كما ينبغى عليهم من إخلاص ووفاء للوطن، ورغم مرور قرابة الأشهر الأربعة على قيامها مازالت تلاحقنا المفاجآت المذهلة والأحداث التى تفوق حدود كل ما هو متوقع والتى تبرز ما ارتكب من جرائم شنعاء فى حق هذا الشعب المصرى العظيم بكل طوائفه وفئاته وعلى اختلاف مستوياته الاجتماعية والثقافية مما جعله عن جدارة واستحقاق هو صاحب هذه الثورة بلا منازع.. وإن كان ذلك لا يجعلنا نبخس طلائع هذا الشعب حقهم المشروع بأدوارهم الفاعلة فى مسيرة الثورة عبر السنوات الأخيرة والتى كانت بحق تمثل الإرهاصات الحقيقية لما شاهدناه من هبة ثورية فى الخامس والعشرين من يناير على يد شبابنا الثوار من خلال احتجاجاتهم المتوالية والتى جابت كل المواقع فى كل أرجاء الوطن منددة بكل أشكال القمع وسلب الحريات لكل أفراد الشعب المصرى ورافضة لما يعانيه من استبداد يحرمه من كل حقوقه التى تؤهله لحياة حرة كريمة على أرض وطنه ومن أبرز هذه العناصر من أبناء مصر المخلصين ونذكرها على سبيل المثال لا الحصر زميلنا الكاتب الصحفى محمد عبد القدوس والدكتور عبد الحليم قنديل والدكتورة كريمة الحفناوى والناشط السياسى جورج إسحق والناشط العمالى كمال عيطة الذى أطلق مبادرة الإحتجاجات فى المحلة الكبرى ذلك فى إطار النشاط السياسى الميدانى لحركة كفاية والتى أرسى قواعدها الراحل العظيم الدكتور عبد الوهاب المسيرى الذى لم يسعفه القدر لجنى ثمار نضاله المستميت نحو تحقيق الحرية للشعب المصرى وتأتى ذروة المأساة حين يستشهد خالد سعيد بالإسكندرية والذى ينسب إليه الفضل فى بداية العد التنازلى لنهاية دوله الطغيان ليكون بحق هو المفجر الحقيقى لثورة يناير وهو قابع فى قبره راضيا مرضيا عنه وشهيدا وشاهدا على الظلم والقهر والاستبداد...ولتصبح حادثته المأساوية والفاجعة هى اللبنة الأساسية التى اتخذ منها شباب مصدر الثورة – وائل غنيم ورفاقه - بدايه لهذه الثورة النادرة والتى أحالت ماكنا نراه حلما الى واقع نحياه بكل الفخر والمباهاة.. وفى مشهد نادر قلما يحدث فى تاريخ الشعوب تنضم كل طوائف الشعب المصرى فى ملحمة فذة داعمة بكل الصدق والإصرار على تحرير الوطن بالتغير الشامل لكل رموز الفساد من قمتها إلى سفحها لإ تمام أهداف الثورة المصرية، وتتلاحم الأدوار فى تنسيق ربانى ليكون هذا الشعب بأبنائه الأبرار الذين قدمهم شهداء فى سبيل الله والوطن هو صاحب الثورة الحقيقى لتتلاشى الأفراد فى منظومة جماعية تزاحم لتقديم التضحيات تحقيقا للهدف الوطنى الأسمى فى سابقة يندر حدوثها فى التاريخ الإنسان على مدى الأزمان لتكون ثورتنا المصرية نموذجا مثاليا يحتزى حين تصدق رغبات الشعوب أجمع لإ ستنشاق من نسائم الحرية..