إحدى أمسيات شهر مارس المنقضى أعلن رجل الأعمال الملياردير المعروف نجيب ساويرس أنه هو الممول لحزب الجبهة الديمقراطي الليبرالي منذ قيامه وإلى الآن، أعلنها صراحة . وأن يمول رجل أعمال قيام حزب سياسى وينفق عليه من أمواله الخاصة لا يبدو حتى اللحظة لأحد فى مصر أنه عيب أو نقيصة يجب أن يداريها أو يخفيها! إعلان الأخ ساويرس ذكرني على الفور بحكاية الشاب الذي سألته منذ عدة سنوات : هل ذهبت لتستفتي على التعديلات الدستورية التي أجراها الرئيس السابق مبارك عام 2005 وشملت لأول مرة انتخاب رئيس مصر من بين أكثر من مرشح بعد أن كان الاستفتاء يتم على شخص واحد فقط ؟ فأجاب الشاب بحماسة إنه لم يشارك فى الاستفتاء فتصورت أنه لم يفعل لإنه مثل كل المصريين يعرف أن النتيجة محسومة سلفاً ، لكنه خيب ظني عندما قال بحماسة إنه لم يفعل لأنه لا يريد أن يأتي رجل أعمال مثل فلان « ذكر واحد بالاسم» ويرشح نفسه رئيسا للجمهورية ويحصل على المنصب بفلوسه وهنا حاولت عن غير اقتناع كامل أن أصحح له هذا المفهوم باعتبار أنه لا يستقيم مع الديمقراطية، كنت أحدث الشاب وفي نفسي شيئ من سيطرة رأس المال على الحكم أحد الأسباب التى أدت إلى قيام ثورة 23 يوليو 1952، فقط تذكروا هذا وسوف نعود له في نهاية المقال. - 1 - ليس رجماً بالغيب ولكنها قراءة صحيحة لقانون الأحزاب الجديد هى التى جعلتنى أتوقع بعد اطلاعى على مسودة القانون قبل صدوره وأكتب فى مقالتى السابقة فيأتى ما أكتبه متطابقا مع الانتقادات التى تواجه الآن قانون الأحزاب الجديد. لم أكن أنوى العودة للكتابة فى هذا الموضوع لولا شراسة الهجمة التى فاقت كل التوقعات ، والتى أعادتنى أنا شخصيا لأعقد مقارنات بين تكوين الأحزاب من قبل تعديلات القانون وما يمكن أن يحدث بعد هذه التعديلات التى ضربت بشدة طموحات المواطنين الراغبين فى تكوين الأحزاب، إضافة إلى ملاحظات وصلتنى من أصحاب مشاريع حزبية جديدة كلها تدور حول هذه التعديلات ، بالإضافة إلى ما توارد على خاطرى وهو أن النظام الساداتى «الذى سمح بالتعددية الحزبية» لم يسمح فقط بتكوينها وإنشائها ، ولكنه منح أيضا محفزات لتكوين الأحزاب على أن يبقى فى يده المحبس الرئيسى لخروجها إلى النور . هذه المحفزات التى جاءت فى القانون رقم 40 لسنة 77 تمثلت فى الدعم المالى ومحدودية عدد المؤسسين الذى بدأ بخمسين مؤسسا ارتفع فيما بعد إلى ألف لم تكن لها (هذه المحفزات) قيمة كبيرة على المحك العملى ، وظلت الأحزاب تظهر إلى الوجود فقط بمباركة الأمن والسلطة وإغماض عين لجنة الأحزاب عن قيام الحزب الذى لا يرى خطورة فى قيامه « حالة حزب الأمة» فى نفس الوقت الذى كانت تعطل فيه أحزاب مثل حزب الوسط بالسنين من خلال ألعاب قانونية عديدة.. وهكذا تكدست الأحزاب الوهمية لتعبر عن حياة وممارسة سياسية وهمية ورثها نظام مبارك عن نظام السادات واستمر يطبق اللعبة بقانونها الذى يمكن أن نلخصه فى عبارة واحدة هى :« السماح على الكيف والمنع من المنبع». - 2 - وجاءت ثورة 25 يناير وتغيرت الدنيا وصدقت كثير من النوايا فى الإصلاح وشمر الكثيرون عن سواعدهم للنزول إلى معترك الحياة السياسية لممارسة ما حرموا منه لسنوات عديدة ، وبالطبع فالأحزاب هى المجال الحيوى الرئيسى لممارسة هذا النشاط ، وكان واضحا خلال الأسابيع القلية الماضية أن عروض تكوين الأحزاب الجديدة سوف يزيد على الطلب خاصة بعد أن خرجت أصوات شبه رسمية وسربت أن الدولة سوف تسمح بقيام الأحزاب بمجرد الإخطار.. وانتظر المواطنون مرسوم القانون الذى سوف يحول هذه الأمنية إلى واقع حتى صدرت تعديلات قانون الأحزاب. ومن وجهة نظرى فإن الذين وضعوا هذه التعديلات ارتأوا أنه يجب ضبط الفوضى ومنع الانفلات الحزبى فخرجوا علينا بهذا الاجتهاد المتسرع الذى لا يناسب وما نحن مقبلون عليه من تغييرات سياسية .. كيف؟!. أولاً : ألغوا المحفزات من القانون القديم حين رفعوا الدعم المالى عن الأحزاب الجديدة ورفعوا عدد المؤسسين خمسة أضعاف وسوف يتمخض عن الإجرائين السابقين أن التكلفة المادية لقيام حزب جديد سوف ترتفع إلى أضعاف كثيرة سبقنى البعض من رجال السياسة والمواطنين العاديين إلى حساب هذه التكلفة ما بين مصاريف تسجيل التوكيلات فى الشهر العقارى والتوكيل الواحد يتم تسجيله بمبلغ 37 جنيها مضروبا فى 5 آلاف مؤسس ثم الإعلان عن أسماء المؤسسين فى جريدتين قوميتين لتصل هذه التكاليف إلى ما يقرب من نصف مليون جنيه. هذه خبطة أولى فى دماغ الحزب ننقل منها إلى تكاليف الإنفاق على الحزب نفسه ونشاطاته بعد التأسيس بداية من إنشاء مقرات إلى ممارسة نشاطات يومية وموسمية والإنفاق على الدعاية أو إصدار صحيفة إلى آخره، فمن يملك هذه المسئولية المادية التى كلت بها الأحزاب القديمة التى تقبع الآن فى طى النسيان؟! - 3 - ومن عثرات التكوين فى التعديلات إلى عثرات المواءمةالسياسية فحين تنص التعديلات على عدم قيام الحزب فى مبادئه وبرامجه على أساس فئوى أو طبقى فمعنى هذا أن هناك تصورا نظريا مفاده أن المجتمع كله يجتمع فى طبقة واحدة أو فئة واحدة مع أن الله الذى خلق البشر سبحانه خلقهم طبقات وفئات لحكمة فهل تأتى الآن تعديلات تكوين الأحزاب لتنكر ما قامت عليه الدنيا منذ الخلق وإلى ما شاء الله؟! وفى مقالى المنشور الأسبوع الماضى هنا فى «أكتوبر» لفت النظر أيضا إلى أن هناك عثرات فى صياغة التعديلات تمثلت فى العبارات المطاطة التى تحتمل التأويلات مثل عدم إضرار الحزب بالسلام الاجتماعى وهى عبارة كما ترى يمكن تفصيلها على بعض الحوادث السابقة أو اللاحقة على تكوين الحزب ، وهى ملحوظة قال بها أيضا الخبراء والنشطاء السياسيون والمهتمون بالعمل الحزبي. أضف إلى ما سبق أن أغلب الأحزاب الموجودة والتى وصل عددها إلى 24 حزبا توفى الله بعضها والبعض الآخر ينتظر رصاصة الرحمة وأراهن أن أكثرها لايصل عدد أعضائه المنضمين إليه 5 آلاف عضو بل ربما يقلون عن نصف أو ربع هذا العدد المطلوب لتأسيس حزب جديد الآن، فماذا نحن فاعلون فى تلك الأحزاب وما حكم القانون بعد التعديل فيها ؟! وهل يمكن أن يحيى الموتى إلا الله؟! - 4 - الذين استفادوا من هذه التعديلات يا سادة هم الأغنياء الذين يملكون الإنفاق على ترف ممارسة السياسة فى الفترة القادمة. وهذا يعيدنا إلى الحكاية التى ذكرتها فى المقدمة وأضيف إليها حكاية أخرى من باب الذكرى التى تنفع عن رجل أعمال كان هاربا من مصر لعدة سنوات قبل أن يعود ويظهر فى ميدان التحرير ، هذا الرجل كان يحمل حقيبة نقود ويلف بها يبحث عن حزب يشتريه من بابه ليملك من خلاله سلطة ونفوذ كان هذا قبل هروبه وجاء من بعده من يستطيع أن يمول حزبا ويملك قناة فضائية ، وغيره من رجال أعمال كانوا وسوف يشترون فى المستقبل القريب من يبيع ضميره أو صوته فى معارك الديمقراطية .. لا تتوقعون أن تنتهى هذه الممارسات بكملة شرف أو باتفاق «جنتلمان» أو بفعل التغيير الثورى لجينيات من اعتاد هذا . لذلك ولكل ما سبق أتصور أن الفقراء فى هذا البلد من حقهم أن يمارسوا السياسة مجانا حتى نصل إلى المحطة الديمقراطية التى يجد فيها كل فرد من الشعب موطئا وموضعا لقدمه ويستطيع أن يأخذ نصيبه ولا تتحول الديمقراطية إلى ترف ممنوع على الفقراء ولايملكه إلا الأغنياء.