ما خشيناه وحذرنا منه.. وقع.. فعندما قلنا فى الأسبوع الماضى إن تداعيات ما يحدث ستُدخل الجميع ودون استثناء فى فوضى. أتمنى الآن رغم دخول بداية نفقها، أن نتداركها قبل أن نصل إلى نهايته. مر أسبوع التظاهرات والاحتجاجات كالليل الحالك على مصر وشعبها وسط ترقب عربى وإقليمى ودولى للأحداث التى تقع فى بلد مهم.. يقع فى قلب العالم. كان من الممكن أن تمر أيام ما بعد هذا الأسبوع الدامى هادئة نلملم فيها جراحنا ونحقق مع من أوصلنا لهذه الحالة وأدخلنا فى هذا النفق تحقيقاً يصل بنا لمعرفة من المسئول عن هذا التعامل الأمنى العنيف مع المتظاهرين من الشباب يوم الجمعة الماضى.. أو اعتداء عدد من البلطجية وأصحاب السوابق وغيرهم على ما تبقى من المحتجين فى ميدان التحرير مساء يوم الأربعاء الماضى، مما أعاد الأزمة إلى المربع رقم واحد. لقد كان خطاب الرئيس حسنى مبارك مساء يوم الثلاثاء، نقطة تحول مهمة فى مسار الأزمة، بكى المصريون وأحسوا بأنهم بهذا الخطاب السياسى والإنسانى قد وضعوا أنفسهم على بداية الطريق الصحيح للخروج من النفق.. كان هذا الخطاب استكمالاً لقرارات مهمة استجابت فيها القيادة السياسية للمطالب التى رفعت منذ تحرك الشباب فى الخامس والعشرين من يناير الماضى.. كان أول قرار هو تعيين السيد عمر سليمان رئيس المخابرات العامة نائباً لرئيس الجمهورية. أثار هذا القرار ارتياحاً كبيراً داخل مختلف الأوساط والشرائح والنخب المصرية، نظراً لسمعة الرجل الطيبة، ودور الجهاز الذى رأسه لسنوات عديدة فى خدمة قضايا الأمن القومى المصرى، فضلاً عن أنه شخصية عسكرية وسياسية منضبطة، عُرف عنه العمل بجدية وصمت وقدرته على إمساك ومتابعة العديد من الملفات والقضايا السياسية والأمنية المهمة سواء فى الداخل أو الخارج، وكان القرار الثانى هو تشكيل حكومة جديدة برئاسة السيد أحمد شفيق، وهو أحد أهم الشخصيات المعروف عنها صدقها ونجاحها فى كل عمل تؤديه أو تتولى الإشراف عليه. جاء خطاب الرئيس مبارك يوم الثلاثاء الماضى ليعطى أملاً جديداً لكل مصرى فى استعادة الأمن للبلاد وعودة الهدوء والاستقرار وفتح صفحة جديدة فى حياة مصر والمصريين. كان بيان الرئيس للأمة يحمل كل صفات المصريين فى العِزة والشموخ والوطنية والإخلاص ومعبراً عن قدرة مصر وشعبها على تخطى الأزمة مدركاً أن هذا البيان يأتى والوطن يمر بأوقات صعبة، تمتحن مصر وشعبها، وتكاد تنجرف بها وبهم إلى المجهول وفرضت على المصريين الاختيار بين الفوضى والاستقرار. مبارك توجه مباشرة لأبناء مصر بكل طوائفهم وقال بوضوح: إن مسئوليته الأولى الآن هى استعادة أمن واستقرار الوطن لتحقيق الانتقال السلمى للسلطة فى أجواء تحمى مصر والمصريين وتتيح تسلم المسئولية لمن يختاره الشعب فى الانتخابات الرئاسية القادمة، وقال بكل الصدق وبصرف النظر عن الظرف الراهن، إننى لم أكن أنتوى الترشح لفترة رئاسية جديدة، الرئيس مبارك وضع خطة طريق واضحة تبدأ من تاريخ إعلانه بعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة والعمل خلال الأشهر المتبقية من ولايته الحالية.. كى يتم اتخاذ التدابير والإجراءات المحققة للانتقال السلمى للسلطة وفقاً للصلاحيات التى يخولها الدستور لرئيس الجمهورية، ودعا الرئيس مبارك إلى مناقشة تعديل المادتين (76) و(77) من الدستور، بما يعدل شروط الترشح لرئاسة الجمهورية ويعتمد فترات محددة للرئاسة. أكد مبارك ضرورة التزام البرلمان بكلمة القضاء وأحكامه فى الطعون على الانتخابات التشريعية الأخيرة دون إبطاء، مع سرعة اتخاذ الحكومة الجديدة الإجراءات التى تحقق المطالب المشروعة للشعب وأن يأتى أداء هذه الحكومة معبراً عن الشعب وتطلعه للإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى ولإتاحة فرص العمل ومكافحة الفقر وتحقيق العدل الاجتماعى والبدء فوراً فى إتخاذ إجراءات تتولاها السلطات الرقابية والقضائية لمواصلة ملاحقة الفاسدين والتحقيق مع المتسببين فيما شهدته البلاد من انفلات أمنى ومن قاموا بأعمال السلب والنهب وإشعال النيران وترويع الآمنين. ومع التكليف السابق للرئيس مبارك لنائبه السيد عمر سليمان بالبدء فوراً بإجراء حوار وطنى مع كافة القوى السياسية حول كافة القضايا المثارة للإصلاح السياسى والديمقراطى وما يتطلبه من تعديلات فى الدستور. اعتبر أغلب المراقبون ذلك كله خطوة مهمة انطلقت من حرص الرئيس مبارك على مصالح الشعب والحفاظ على الدولة المصرية بكل مؤسساتها وعدم تعريضها للانهيار. استجاب الرئيس لكل المطالب الشعبية فقد عيّن نائباً له، وسقط مع هذا الإعلان ما كان يثار حول توريث الحكم، أكد الرئيس وهو صادق أنه لن يترشح وقضى هذا أيضاً على ما كان يسمى بالتمديد.. أشاع الرئيس مناخاً جديداً وأملاً جديداً فى الإصلاح والتغيير الهادئ السلمى الديمقراطى حينما دعا إلى حوار يصل لوفاق وطنى حول طبيعة هذه التعديلات تتيح فرصة أوسع للترشح على منصب الرئاسة، وإذا ما أضفنا تأكيد السيد نائب رئيس الجمهورية عمر سليمان من أنه لا أحد من أبناء الرئيس سوف يترشح، فإننا بذلك نقول إن كل هذه التعهدات والالتزامات التى أعلنت أمام جماهير الشعب المصرى وأمام العالم، أصبحت هى دليل المرحلة القادمة قبل إجراء انتخابات الرئاسة فى سبتمبر المقبل والذى يستلزم إجراؤها أولاً إجراء التعديلات على المواد الدستورية التى سيتم الاتفاق عليها فى الحوار الوطنى ثم إقرارها من مجلس الشعب بعد تصحيح عضويته ثم فتح باب الترشح على منصب الرئاسة قبل موعد الاستحقاق الدستورى لتولى الرئيس الجديد مهام منصبه فى أكتوبر القادم.. الذى إذا مر دون اختيار رئيس جديد بالانتخاب الحر المباشر، فستدخل البلاد فى فراغ دستورى يدفع بها إلى هاوية الصراع على السلطة دون شرعية انتخابية ودستورية، ويمكن القول أمام هذا التطور الكبير فى المشهد السياسى المصرى، إننا أمام مرحلة جديدة يجب على الجميع ودون استثناء عدم تفويتها أو تجاوزها، وإذا ما أراد الجميع أن تستعيد مصر أمنها واستقرارها وينتهى هذا الخوف الذى روّع الجميع.. فعليهم أن يقبلوا بالحوار ويطرحوا ما لديهم من تصورات وأفكار ورؤى حول كافة القضايا، فكل فكرة وطنية وديمقراطية وقانونية تصب فى اتجاه الإصلاح قابلة للنقاش، هذا النقاش الذى يجب ألا يطول، حتى لا نصطدم بتوقيتات الاستحقاق الانتخابى الرئاسى. لقد بدأ نائب رئيس الجمهورية سلسلة اللقاءات مع مختلف القوى السياسية سواء مع حركة الشباب، أو مع الأحزاب أو مع القوى السياسية، فقبل كثير من الأحزاب وبعض قطاعات الشباب، وطلبت بعض القوى مهلة للتفكير وتردت بعض القوى الأخرى ولكن فى الأغلب سوف يتغلب فى النهاية صوت العقل والرغبة فى المشاركة والحفاظ على البلاد والخروج من الأزمة، وفتح باب جديد للمستقبل يحمى ما تحقق لمصر وشعبها من إنجازات ويبنى عليه، ويصون كرامة وكبرياء المصريين ويحافظ على صورتهم الحضارية، وأعتقد جازماً أن خروج المصريين عقب إلقاء بيان الرئيس الثانى فى الأول من فبراير وتواصل خروجهم وتظاهراتهم فى اليوم الثانى من نفس الشهر كان استفتاءً جديداً على وفاء المصريين لوطنهم ورئيسهم ورفضهم الكامل لما يسمى بالرحيل الذى يعتبره المصريون إهانة لكرامتهم الوطنية وانتقاصاً لسيادتهم وقرارهم المستقل وحقهم فى اختيار رئيسهم بأنفسهم، ورغم هذا الجرم الذى ارتكبه البعض من أصحاب المصالح والقوى التى تسعى لتصدير الفوضى بالتخريب والحرائق وهدم الشرعية بالاعتداء على ميدان التحرير والمحتجين فيه، فإن كل مصرى بخلاف من يحمل أهدافاً خاصة يرفضون الحديث عن إهانة مصر ورئيسها الذى قضى عمره مدافعاً عن مصالح مصر والمصريين وحفظ كرامتها واستقلالها ورفض كل تدخل أجنبى فى شئونها الداخلية. لقد عرف المصريون مبارك المقاتل والطيار ونائب الرئيس ورئيساً للجمهورية، لم يكن يوماً طالباً لسلطة أو جاه، وكيف تولى مسئولياته فى ظروف سياسية صعبة ويعلم الجميع ما قدمه للوطن فى الحرب والسلام ويدرك المصريون أن مبارك مصرى ارتوى بنيل مصر ورجل من أبناء القوات المسلحة وليس من طبعه خيانة الأمانة والتخلى عن الواجب والمسئولية والقَسَم الذى أقسمه بالحفاظ على مصالح البلاد والشعب وصيانة أمنها وأراضيها. مبارك تحدث فى بداية بيانه عن مهامه وخريطة الطريق للفترة القليلة القادمة حتى يتم الانتقال السلمى للسلطة، وجاء هذا الحديث والالتزام السياسى كقائد وزعيم ورئيس أدى دوره الوطنى بكل إخلاص وتفان، أما مبارك الإنسان الذى يعرف أصالة وعراقة شعبه ويثق فى قدرته على الخروج من هذه الظروف الراهنة أقوى مما كانت عليه قبلها وأكثر ثقة وتماسكاً واستقراراً، فقد تحدث كحسنى مبارك الإنسان ابن هذا الشعب والذى خرج من بين صفوفه وخدم هذا الوطن وهذا الشعب، مبارك ابن هذه الأرض المصرية أكد أن هذا الوطن العزيز هو وطنه مثله مثل كل مواطن ومواطنة مصرية، فيه عاش وحارب من أجله، ودافع عن أرضه وسيادته ومصالحه وعلى أرضه سيموت.. هذا ما قاله مبارك الإنسان المصرى المعجون بكل صلابة المصريين وكبريائهم وشموخهم واعتزازهم بأنفسهم.. ترك مبارك الأمر لشعبه الذى يثق فيه وتركه لحكم التاريخ ليقول كلمته للأجيال الجديدة بما له وما عليه مؤكداً أن الوطن باق والأشخاص زائلون ومصر الخالدة أبداً، وربما يكون ذلك هو الأهم فى رسالة الرئيس مبارك حينما أشار إلى أن راية مصر وأمانتها تنتقل بخلود الوطن بين سواعد أبنائها، وعلى الجميع أن يضمن تحقيق ذلك بعزة ورفعة وكرامة جيلاً بعد جيل. نعم.. علينا أن نضمن انتقال الراية بعزة ورفعة وكرامة وكبرياء وطنى يحفظ لمصر وأبنائها صورتهم أمام العالم كشعب وفىّ مخلص لا ينسى تاريخه ولا أبناءه ويرفض بنفس القدر أن يتدخل أحد فى شئونه. إن المهمة الرئيسية لمصر ولكل المصريين فى هذه المرحلة هى إنقاذ مصر من خطر الفوضى واستعادة أمن البلاد ومحاسبة المخطئين والفاسدين ومواصلة الإصلاح والانتباه لقضايا المواطنين وفى مقدمتهم الشباب والبسطاء، وكل هذا لن يتم إلا بالحوار والخروج من نفق الفوضى والانهيار والتمسك بكرامة المصريين والإصرار على التمسك بالشرعية الدستورية التى تصون الدولة. ان التحية هنا واجبة لشعبنا المصرى بكل قطاعاته وكذلك لقواتنا المسلحة التى أثبتت أنها حافظة لهذه الشرعية ولأمن البلاد وأمانها وأنها الحارسة على مصالح هذا الشعب الوفى، والتحية أيضاً واجبة لشبابنا الطاهر النقى الذى فجّر حركته بإرادته وإخلاصه لوطنه وإيمانه بالمستقبل. إن مصر كلها مطالبة بروح جديدة تشبه «روح أكتوبر» تلك الروح التى أعطتنا ميلاداً جديداً لهذه الأمة لكى نبدأ معاً مرحلة جديدة بمصر القوية بشعبها.