على مدى يومين متواليين ذهبت إلى أسواق الغلابة والبسطاء. فأنا أشعر أننى أقرب إليهم، أصلاً وانتماءً وحباً ووداً، ذهبت إلى سوق الخميس بالمطرية.. ثم إلى سوق الجمعة بالإمام الشافعى.. والسوقان تعرضا على مدار تاريخهما لحركة تنقلات.. وفقاً للظروف والحوادث.. ومنها حادثة حريق سوق التونسى بسبب سقوط سيارة طائرة وطائشة من فوق الكوبرى على المحلات فأشعلت فيه النيران وأدت إلى نقله - مؤقتاً إ لى جوار مسجد الإمام الشافعى.. تمهيداً لنقله بصفة دائمة بجوار مدينة 15 مايو. وقبل أن أبدأ تفاصيل جولتى بالسوقين.. يجب أن أشير إلى أن هذه الأسواق الشعبية منتشرة فى جميع أنحاء العالم. كما أننا نراها فى كافة القرى والنجوع والمراكز، بأرض المحروسة، وكما شاهدتها فى الوجهين القبلى والبحرى.. شاهدتها فى هولندا والصين وماليزيا وأثيوبيا، أى أنها ليست بدعة.. فهذه الأسواق لها زوارها وجمهورها، بل وعشاقها الذين يذهبون ليس للشراء فقط.. بل لقضاء يوم إجازتهم.. مستمتعين ومستفيدين! وقد زادت أهمية أسواق الغلابة والبسطاء فى الفترة الأخيرة مع زيادة الغلاء وارتفاع الأسعار بصورة جنونية.. فى كل السلع والخدمات حتى أنك تحتار حيرة كبرى عندما تنزل إلى السوق أو السوبر ماركت ومعك مائة جنيه فقط.. عندها سوف تشعر بضآلة عملتك ومكانتك وسوف يدرك حدود قدراتك.. على الطبيعة.. فترتد بائساً حسيراً مطاطى الرأس فلا قيمة للجنيه ولا صاحب الجنيه. أيضاً فإن زيادة معدلات البطالة دفعت الكثيرين إلى اللجوء لهذه الأسواق الشعبية كملاذ لهم ولأبنائهم ولمن يعولون.. وينتظرون المأكل والملبس! ومع تراجع قيمة الجنيه زادت معدلات الفقر.. ولم تعد تكفى ال 400 جنيه التى حددها المجلس القومى للأجور.. لم تعد تكفى أسرة مكونة من خمسة أفراد يأكلون «فول وعيش» فقط طوال الشهر، ونحن نعلم أن تطبيق حكم المحكمة برفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه شهرى سوف يحمِّل الحكومة مبالغ طائلة ويضيف أعباءً هائلة لا تستطيع ميزانيتنا تحملها.. لذا فإن دور المؤسسات الأهلية والخيرية ورجال الأعمال حيوى وملح فى ظل هذه الأوضاع والأسعار المشتعلة، يجب أن يتضامن الجميع لتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعى.. فلم يعد الفقير المعدم هو الذى لا يجد قوت يومه فقط.. بل أصبح أغلب الموظفين المربوطين بسياج الحكومة من الفقراء الذين يستحقون المساعدة والصدقات. ويجب على رجال الأعمال الذين أنعم الله عليهم بمئات الملايين والمليارات أن يكون لهم دور إنسانى واجتماعى أكبر وأوسع.. فهذا المجتمع هو الذى صنع ثرواتهم.. وهؤلاء الفقراء والبؤساء هم الذين ساهموا فى صُنع أمجادهم وإنجازاتهم الشخصية، ولولا جهد البسطاء.. لما تحقق مجد الأغنياء! نعود مرة أخرى إلى جولتنا فى أسواق الغلابة.. فى سوق الخميس والجمعة.. ونتساءل: ما هى مزاياها.. وما هى عيوبها ومحاذيرها.. وما هو المطلوب لتطويرها؟ بداية يجب أن نعترف بأن رخص الأسعار هو الميزة الأساسية والكبرى فى هذه الأسواق.. وأضرب لك بعض الأمثلة.. فكيلو «العجوة» يمكن أن نشتريه بثلاثة جنيهات.. بينما فى أماكن أخرى - ليست بعيدة عن هذه الأسواق - يتضاعف سعرها.. بل يزيد عن الضعف، وكذلك الحال مع كافة السلع.. من مفروشات وأحذية وملابس ومأكولات ومشروبات. الميزة الثانية والكبرى التى اكتشفتها فى هذه الجولة.. ويدركها روادها منذ عشرات السنين.. هو أنك تستطيع شراء كل شىء.. من الإبرة إلى الصاروخ كما يقولون.. من مكان واحد.. من «هايبر الخميس» أو «هايبر الجمعة»! مع فوارق مهمة.. هى أنه لا يوجد تكييف ولا تحظى هذه الأسواق بذات القدر من النظافة والشياكة التى تحظى بها المحلات الكبرى!! وأيضاً تختلف نوعية الرواد وأذواقهم وسلوكياتهم.. ودخولهم.. رغم أنهم جميعاً مصريون! يمكنك من خلال هذه الأسواق تجهيز عش الزوجية بنحو ثلاثة آلاف جنيه.. تشمل الأجهزة المنزلية بكل أنواعها.. والسيراميك والموبيليا إلى آخر ما تريده.. ولو زادت شطارتك ومهاراتك تستطيع أن تحصل على أسعار أرخص وأفضل، والمهم الخبرة والتجارب السابقة.. والعلاقات المستمرة بين البائعين والزبائن. أما محاذير أسواق الغلابة فأولها: «بيع واهرب» فهذه سوق اليوم الواحد.. تضم الجميع لعدة ساعات.. لا تزيد على 12 ساعة.. وربما أقل، بل إن البائع سوف يغادر السوق فور نفاد بضاعته! لن ينتظرك وقد لا تجده نهائياً خاصة إذا كانت بضاعته مغشوشة وتعمد تصريفها بسرعة فائقة وبأرخص الأسعار! أيضاً فإن السلع المضروبة منتشرة فى هذه الأسواق.. فأغلبها درجة ثالثة.. وربما عاشرة وغير مضمونة.. حتى بعد تجربة بسيطة يمكنك اكتشاف عيوبها وليس فور شرائها، لذا فإن العين المتمرسة والمحنكة والمتخصصة مطلوبة بشدة حتى لا تضيع فى «هايبر» الخميس والجمعة! أيضاً يجب أن تحذر النشل والسرقة خاصة وسط الزحام الشديد والكثيف والذى قد يصل إلى درجة التحرش فى بعض الأحيان.. للأسف الشديد. وقد يبحث بعض الزبائن عن تاريخ صلاحية السلع فلا يجدونها.. وإذا وجدوها.. فمن المؤكد أنها سوف تكون مضروبة! كل الماركات العالمية يتم غشها وتقليدها! وللأسف الشديد ينطلى الغش والتدليس على أغلب رواد هذه الأسواق. هذا هو واقع أسواق الغلابة.. دون الدخول فى التفاصيل.. فلا مفر من التجربة الشخصية المباشرة والحذرة لاكتشاف دهاليز وخبايا أسواق الأسبوع كلها.. من السبت إلى الجمعة! فكل زبون له تجربة مختلفة.. ومنهم من يذهب إليها مرة واحدة.. ولا يكررها.. ومنهم أدمن الذهاب إليها وارتيادها.. والشراء منها.. حتى لو لدغ منها مرات ومرات. وبغض النظر عن المزايا والعيوب والمحاذير.. تبقى هذه الأسواق ضرورة اجتماعية واقتصادية للتنفيس عن الغلابة والبسطاء.. وتوفير ملاذات آمنة للهروب من بلاء الغلابة! ولكن المطلوب هو تطويرها وتنظيمها والارتقاء بها.. دون التسبب فى تغيير طبيعتها بما ينعكس على زيادة أسعارها. ورغم أننا نؤيد نقلها إلى أماكن أخرى.. أفضل تنظيماً وتحظى بمرافق مناسبة.. إلا أنها يجب ألا تكون بعيدة عن رواد هذه الأسواق.. فنقلها إلى جهات بعيدة سوف يؤدى إلى تدميرها وينعكس سلباً على كافة المتعاملين معها.. من بائعين وزبائن.. ومستفيدين بطرق مختلفة. نعم نحن نتطلع إلى اختيار أماكن مناسبة وقريبة من الأسواق القائمة حالياً.. حتى تقوم بدورها الاجتماعى المهم خاصة فى ظل انفلات الأسعار وارتفاع معدلات البطالة والفقر. وخلال جولتى بسوق الخميس سألت أحد بائعى العملات القديمة عن «المليم الأحمر» فراح يبحث وينقب.. فاكتشف مليماً أحمر يعود تاريخه إلى 132 عاماً.. ومليماً آخر يعود إلى حقبة حكم السلطان حسين.. فسألته عن سعرهما.. فقال «30 جنيهاً.. وعملت معك واجب»! نعم هذا قمة الواجب فالمليم الأحمر القديم يساوى ثلاثين جنيهاً الآن.. وربما كانت قيمته الشرائية أكبر من هذه الجنيهات المعدودات.. الضائعات.