أصبح من المعتاد ألا نسمع للمثقفين صوتا إلا إذا أرادوا شجب أداء المؤسسات الثقافية التابعة للدولة ، أو وهم يطالبون الدولة بالاهتمام بشئونهم المتعلقة بالتواجد على الساحة،أو بتوفير آلية سريعة لنشر وتوزيع كتبهم فور الانتهاء من كتابتها ؛ تماما مثلما تعلو أصوات العامة المطالبة دوما بتوفير السكر والأرز، وباقى السلع الاستهلاكية. ومن غير اللائق أنه فى الوقت الذى تعلو فيه الأصوات تشجب المركزية، وتدعو إلى إطلاق يد كل هيئة أو مؤسسة، أو حتى مدرسة فى تصريف شئونها الداخلية ، من غير اللائق أن نساهم نحن أنفسنا فى تكريس و تنامى مفهوم هذه المركزية ، حين نصر على أن نقف مكاننا، مكتوفى الأيدى فقط لنطالب، وننتظر أحدا قد يسعده الحظ ليمتلك خادم مصباح علاء الدين، فيحقق أحلامنا دون جهد منا أوتعب . ومما لا شك فيه أن كل مثقف هو مشروع نهضة فى حد ذاته ، فإن قنع الغوغاء بسلعهم الاستهلاكية التى تشبع بطونهم ، فالمثقف الحقيقى لا يقنع إلا إذا توافرت وسائل المعرفة والتنوير للجميع ، وهذا لا يتحقق إلا إذا توافرت ألية تنتقل من خلالها خبراتهم وأفكارهم إلى الجميع . ولكن الخلل يكمن فى أن المثقفين اكتفوا فقط بالكتابة فى صوامعهم، وتنصلوا من مخالطة حتى وسائل النشر ، يتوقعون أن يأتيهم الناشرون والقراء حبوا . فأدباء الأقاليم يؤمنون بنظرية المؤامرة لتفسير عدم تسليط الأضواء عليهم لصالح أدباء العاصمة ، وأدباء العاصمة ينتقدون القيادات الثقافية ، والمحصلة أن الجميع يتحدثون وقد تحولوا إلى زعماء ثوريين يطالبون ويوقعون على بيانات وإدانات ، ثم لا شئ ، و ينتهى الطحن ولا أثر لخبز! تُرى ماذا سيكون عليه حال الثقافة لو تجاوزنا عقدة التهميش والاتكالية والتشبث بأذيال المركزية ؟ الاجابة ليست بمشكلة لو علمنا أن « محافظة الشرقية» أعطت مثالين عمليين فى امكانية أن يكون المثقف مبادرا لا متلقيا ، فاعلا لا مستجديا . فمن مدينة « ديرب نجم» خرجت لأول مرة فكرة «مؤتمر اليوم الواحد» والذى أصبح من أنجح المؤتمرات. فكثيرا ما يتحقق فى هذه النوعية من المؤتمرات من الفائدة ما لا يتحقق فى مؤتمرات الأيام الخمسة التى تستوجب إقامة فندقية وتكاليف مادية ليست بالقليلة على الإطلاق . أيضا منها خرج الدكتور الراحل «حسين على محمد» الذى لم يكن له هم إلا تحطيم الحواجز التى تفصل المعرفة عمن يبحث عنها . عاش الدكتور حسين ورحل يحترف العطاء. عبر بطموحه الحاجز الضيق للمدرسة التى عمل بها ليحصل على الدكتوراه كى تتاح له فرص أكثر للتنوير الذى ينشده . وعبر حاجز التكريس الثقافى المتمركز فى العاصمة ليصدر فى عام 1980 سلسلة «أصوات معاصرة»، ويصدر أكثر من تسعين كتابا لكتاب مصريين وعرب، وقد انضم له ثلة من المثقفين الذين آمنوا مثله بأن لهم دورا فعالا ومهماً فى النهضة الثقافية المأمولة ليتحدى الجميع حواجز الاقليمية والبيروقراطية . ذلك على الرغم من الصعوبات المالية التى يستلزمها اصدار كتاب واحد، فما بالنا بسلسلة يشترك فيها أدباء من داخل وخارج مصر؟ وتصبح «أصوات معاصرة» سلسلة مميزة تصدر لأدباء يستحقون أن تُسلط على أعمالهم الأضواء، وإن بقوا هم خارج الأضواء. أما الراحل نفسه فقد عبر حاجز التصنيف الأدبى كشاعر له أكثر من عشرة دواوين شعرية، ليكتب ست مسرحيات شعرية :» الرجل الذى قال، الباحث عن النور، الفتى مهران ، بيت الأشباح، سهرة مع عنترة، الزلزال» . ويصدر للأطفال : « الأميرة والثعبان، القاهرة ،1977 و مذكرات فيل مغرور، عمَّان 1993» . ويصدر مجموعة قصصية « أحلام البنت الحلوة « إلى جانب اصداراته المميزة، والغزيرة من دراسات أدبية وأبحاث. وصدر عنه كتاب «نظرات نقدية فى ثلاث مسرحيات شعرية لحسين على محمد ، وكتاب: «حسين على محمد: ملف إبداعى ونقدي». وعندما انتقل إلى الرياض ليعمل فى جامعاتها، تغلب على الحدود الجغرافية، والترسيمات الحدودية التى تباعد مكانيا بين أدباء الوطن العربى المتفرقين فى أرجاء الكرة الأرضية ليداوم على الاتصال بهم عن طريق المواقع والمنتديات الأدبية على شبكة الانترنت. فخلق لنفسه أسرة متكاملة من المحبين والمريدين الذين كانوا يلجأون إليه طلبا لنصيحة أو مشورة لم يبخل بها على أحد يوما . ولذلك لم يكن من الغريب أن يتابع كل من عرفه أخباره منذ أن دخل فى غيبوبة ما قبل الانتقال النهائي، ليكسر آخر الحواجز فيرتقى ويخلف وراءه سيرة رجل كان أنموذجا فى تحطيم كل الحواجز فى سبيل ثقافة حقيقية وعابرة ومستقلة تخلصت من قيد المركزية. تجربة «أصوات معاصرة « أثبتت أن الأدباء والمثقفين الحقيقيين؛ إن أرادوا أن يشبوا عن الطوق، فعليهم تجاوزمرحلة الطفولة الفكرية المكتفية بالمشاكسة، وعليهم أيضا أن يقلعوا عن تلذذهم بالرضاعة فى الأروقة التى يهاجمونها ، فى الوقت الذى يصرون فيه على مواصلة الدوران فى فلك الدوائر الرسمية لتحقيق أحلامهم . فمرحلة الفطام إن كانت صعبة، فهى ليست مستحيلة وفى الامكان تجاوزها والانتقال إلى مرحلة الاستقلال كما فعل هو حين تحمل هم سلسلة أدبية تصدر من خارج العاصمة وتجاهد كى تستمر فى الصدور رغم كل الاحباطات المتوقعة والفجائية . تجربة «ديرب نجم» المميزة تستحق أن نعترف بها وأن نشد الرحال إليها طلبا للخبرة فأصدقاء الدكتور حسين سيواصلون مشروعهم الطموح فى النشر. وقريبا سيصدر له ديوان «مسامرة الموتى» الذى قد انتوى اصداره قبل رحيله، فهل عساه الآن يسامر كل من سبقه فى رحلة الارتقاء الأخيرة و المتوالية لرموز الفكر والثقافة فى عالمنا العربى؟.