أتابع باهتمام بالغ المباراة المثيرة الساخنة التى تشهدها العاصمة النمساوية فيينا فى إطار الاجتماع السنوى للوكالة الدولية للطاقة الذرية.. المباراة عنوانها الرئيسى الملف المسكوت عنه.. ملف إسرائيل النووى.. أما أطرافها فمنقسمون إلى فريقين.. فريق مجموعة الدول العربية الذى تؤيده دول عدم الانحياز.. وفريق إسرائيل الذى تقف وراءه وتلعب معه أمريكا!.. الفريق العربى يحاول إحراز هدف ثمين فى مرمى الفريق الإسرائيلى حيث تقدم بمشروع قرار يلزم مدير الوكالة الدولية بتقديم تقرير مفصل عن القدرات النووية الإسرائيلية فى الدورة القادمة لمجلس أمناء الوكالة.. وهو ما يعنى عمليا إخضاع منشآت إسرائيل النووية لرقابة الوكالة الدولية.. أما الفريق الإسرائيلى الذى تلعب معه أمريكا فيحاول بأى ثمن منع دخول هذا الهدف فى مرماه.. خاصة وأنه مُنى بهزيمة ثقيلة وموجعة فى العام الماضى.. وقد دخلت المباراة مراحلها الأخيرة والحاسمة.. فأمريكا تطالب الفريق العربى بسحب مشروع قراره وتزعم أنه يمثل عقبة فى طريق تحقيق السلام.. ومن جانبها اتهمت إسرائيل مصر بازدواجية المعايير وأنها ليست مهتمة بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وإنما كل الذى يهمها هو إحراج إسرائيل والضغط عليها.. وهو ما اعتبرته مصر “وقاحة” تعكس التوتر الذى تعيشه إسرائيل خوفا من صدور القرار!.. واتفرج يا سلام!.. ولعل أكثر المشاهد إثارة فى المباراة الساخنة المثيرة هى تلك المشادة الكلامية الحادة التى وقعت بين ممثلى مصر وإسرائيل فى مؤتمر الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. إسرائيل تزعم أن مصر لا تمتثل للمعايير التى تنادى بتطبيقها وأنها - مصر - تتعامل بمبدأ «زيد يرث وعمر لا يرث»!.. وقال شاؤول شوريد مدير هيئة الطاقة الذرية الإسرائيلية وممثل إسرائيل فى مؤتمر الوكالة الدولية إن أكثر ما يهم مصر هو انتقاد إسرائيل فى الوقت الذى لا تمتثل فيه للمعايير التى تنادى بتطبيقها وأنها لا تطبق على نفسها القواعد التى أقرتها الوكالة الدولية.. وتقف ضد تحويل أفريقيا إلى منطقة خالية من السلاح النووى!.. ولم يفت ممثل إسرائيل تقديم النصيحة لمصر فقال إذا كانت مصر ترغب حقا فى تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من السلاح النووى فعليها أن تلجأ إلى الحوار بدلاً من هذه الحملة الهجومية السياسية المثارة ضد إسرائيل.. كلام ممثل إسرائيل بالطبع لم يعجب مصر التى رأته مليئا بالأكاذيب والتناقضات.. وهو ما دعا على عمر سرى ممثل مصر فى مؤتمر الوكالة الدولية إلى ممارسة حقه فى الرد فقال إن التصريحات التى أدلى بها شاؤول شوريد ممثل إسرائيل أمام مؤتمر الوكالة تظهر «وقاحة» هذا البلد (إسرائيل) حيال مسائل نزع الأسلحة النووية وإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية.. وكأنه أراد تأكيد المعنى فقال بالحرف الواحد: التصريحات الإسرائيلية تظهر معنى كلمة «شوتزباح» العبرية التى تعنى «وقاحة»!.. وإذا كانت إسرائيل تواجه مصر والدول العربية فى مؤتمر الوكالة الدولية.. فإن المواجهة امتدت فى الحقيقة إلى مواجهة أمريكية غربية من ناحية.. عربية من الناحية الأخرى.. وليس من قبيل المبالغة وصفها بأنها مواجهة شرسة.. أمريكا ومن ورائها المجموعة الأوروبية تطالب الدول العربية بسحب مشروع قرارها لأنه على حد زعمها سيكون عائقا خطيرا فى طريق السلام الذى بدأ بالفعل بالمفاوضات المباشرة.. الكلام مغلوط فلو أن إسرائيل تريد تحقيق السلام لاستجابت لدعوى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية.. فالسلام لا يحتاج إلى سلاح نووى وغير نووى.. لكن الحقيقة أن أمريكا ومن ورائها المجموعة الأوروبية تزعم أن مشروع القرار العربى يقف عائقا أمام تحقيق السلام.. أولاً إرضاء لإسرائيل وانحيازا لها.. وثانيا لأنها اعتادت التحكم فى قرارات المؤسسات الدولية ولاشك أن الإجماع العربى على تقديم مشروع القرار الخاص بالملف النووى الإسرائيلى والإصرار عليه يمثل بالنسبة لأمريكا محاولة شرسة وخطيرة لكسر حاجز السيطرة الأمريكية على قرارات المؤسسات الدولية.. وفى كل الأحوال تحرص إسرائيل ومن ورائها أمريكا أن يبقى الملف النووى الإسرائيلى غامضا!.. *** ترفض الحكومة الإسرائيلية أن تقر أو تنفى رسميا أن لديها أسلحة نووية.. من المؤكد طبعاً أن إسرائيل تملك أسلحة نووية وقد قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية بنشر تقرير فى عام 1974 تؤكد فيه أن عدد الرؤوس النووية الإسرائيلية يتراوح ما بين عشرة إلى عشرين رأسا نووياً.. وفى عام 1986 قدر خبراء بريطانيون عدد الرؤوس النووية الإسرائيلية بنحو مائة إلى مائتى رأس نووى.. غير أن وكالة الاستخبارات الأمريكية عادت فى عام 1990 إلى تقدير عدد الرؤوس النووية الإسرائيلية من جديد فأكدت أن عددها يتراوح ما بين 75 إلى 130 رأسا نوويا.. إسرائيل مثلها مثل الهند وباكستان وكوريا الشمالية.. لم تنضم لمعاهدة حظر الانتشار النووية.. لكنها على عكس الدول الثلاث تتبنى سياسة الغموض.. لا تنفى ولا تؤكد.. باعتبار أن هذا الغموض والشك فى قدرتها النووية يمثل عامل ردع!.. ولأن إسرائيل لم تنضم لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فإنه لا يتعين عليها فتح مواقعها النووية أمام لجان تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. لكنها فى نفس الوقت أيضاً لا تستطيع الحصول على كل المساعدات التى يمكنها الحصول عليها - بوجب المعاهدة - لتنمو كقوة نووية سلمية.. وليس سرا أن إسرائيل نفسها هى التى زرعت الشك فى امتلاكها أسلحة نووية!.. *** يعود اهتمام إسرائيل بالسلاح النووى إلى عام 1949 حيث تم إنشاء معهد وايزمان للعلوم الذى دعم الأبحاث النووية تحت إشراف عالم إسرائيلى يدعى دايفد بيرجمن كان الصديق الشخصى لرئيس الوزراء آنذاك دايفد بن جورين.. وكان الاثنان بيرجمن وبن جورين يؤمنان بأن الخيار النووى ضرورى لبقاء دولة إسرائيل.. ولم يتم الكشف عن برنامج إسرائيل النووى إلا فى عام 1986 على الرغم من وجود شكوك حول هذه المسألة.. حيث قام عالم نووى إسرائيلى اسمه موردخان فعنونو ترجع أصوله إلى مدينة مراكش بالكشف عن معلومات أمام وسائل الإعلام العالمية تؤكد أن البرنامج النووى الإسرائيلى أكبر وأكثر تقدما مما كان معتقدا فيما سبق. عمل فعنونو فنيا بمركز ديمونة للأبحاث النووية فى صحراء النقب لمدة تسع سنوات.. وفى أواخر عام 1985 ترك موقعه كعالم نووى وراح يتنقل بين دول الشرق الأقصى واستطاع قبل أن يترك وظيفته الحصول على فيلمين مصنفين تحت بند سرى للغاية، يشرحان جانبا من الأعمال التى تجرى بمفاعل ديمونة والمعدات التى تستخدم هناك بما فيها المواد الخاصة باستخراج المواد الإشعاعية المخصصة للإنتاج العسكرى ونماذج معملية للأجهزة النووية. ولم يكن واضحا ما إذا كان فعنونو يعتزم الكشف عن الأنشطة النووية السرية لإسرائيل بسرقته لهذين الفيلمين إلا أنه انخرط فى إحدى الجماعات المناهضة للأنشطة النووية فى مدينة سيدنى باستراليا، كما اعتنق المذهب الإنجيلى المسيحى.. وقد استطاع أحد أعضاء الجماعة المناهضة بإقناعه بنشر صور ومعلومات تفصيلية عما يجرى بمفاعل ديمونة الإسرائيلى.. وهكذا سافر فعنونو إلى لندن وتوجه إلى صحيفة صنداى تايمز التى نشرت المعلومات والصور التى كانت فى حوزته.. وعندما توجه فعنونو فيما بعد إلى العاصمة الإيطالية روما نجحت أجهزة الموساد فى اختطافه وإعادته إلى إسرائيل حيث تمت محاكمته بتهمة الخيانة العظمى وسجن ثم أفرج عنه بعد 18 عاما قضاها فى السجن وتم ترشيحه بعد ذلك عدة مرات للحصول على جائزة نوبل!.. ورغم ذلك لم تعترف أى حكومة إسرائيلية ولم تنف امتلاكها للأسلحة النووية.. وظلت سياسة الغموض النووى هى القاعدة التى تمسكت بها كل الحكومات الإسرائيلية وحتى الآن. وليس هناك شك أن القرار الذى تسعى الدول العربية لاستصداره فى اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يمثل نهاية لهذه السياسة الإسرائيلية.. وليس سرا أن الدول العربية تحاول تحقيق انتصار جديد بمشروع القرار الذى تقدمت به.. استثمارا للانتصار الذى حققته العام الماضى عندما نجحت فى استصدار قرار يطالب إسرائيل بالانضمام لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.. وكانت هذه هى المرة الأولى التى يتم فيها الإشارة بوضوح إلى اسم إسرائيل.. وهو ما سبب لها وللولايات المتحدة حرجا!.. *** ليس واضحا إن كانت المجموعة العربية ستنجح فى استصدار قرار جديد يلزم مدير الوكالة الدولية بتقديم تقرير عن قدرات إسرائيل النووية.. أم لن تنجح.. خاصة وأن الفلبين تقدمت باقتراح يمثل حلا وسطا وهو تأجيل صدور القرار لمدة عام.. ليس واضحا إن كان الفريق العربى سينجح فى إحراز هدفه فى مرمى الفريق الإسرائيلى أم سيفشل!.. لكن الأمر المؤكد أن الدول العربية قادرة إذا اجتمعت واتفقت واتحدت كلمتها على تخويف إسرائيل.. وأمريكا!..