لم تعد المقاهي أماكن هامشية (للفرفشة) يقصدها عابرو الليل السهارى، بل أصبحت موقعاً استراتيجياً يتزاحم عليه كل من يريد غسل هموم النهار، وتصفية ذهنه المتعب من الأفكار وحسابات لا تنتهي، يحدث هذا في رمضان القاهرة على نحو خاص، إذ تنافس المقاهي الشعبية القاعات المكيفة لفنادق الخمس نجوم، وترتادها جموع حاشدة من المصريين والعرب والأجانب تنشد البساطة والاستجمام، وتهرب من الأبواب المغلقة إلى الأجواء المفتوحة، وتلوذ بكوب من الشاي الأخضر أو (نفس) من الشيشة برائحة التبغ العبقة والصخب المنعش الذي يصبح هدفا في حد ذاته! مقهى الفيشاوي، أحد المعالم الأساسية لسهرات حي الحسين التي تمتد حتى خيوط الفجر الأولى، حيث تتذوق الشاي بالنعناع أو الشاي الأخضر بخلطته السرية – على حد تعبير أحد الزبائن - وأهم ما يميز الفيشاوي أثاثه ومراياه ذات البراويز العريقة، التي تستند إلى جدرانها المزينة بقطع الأرابيسك واللوحات والرسومات التاريخية. إضافة إلى مجموعة من القناديل والمصابيح الزيتية الموجودة إلى الآن. ومنذ أوائل القرن الماضي اكتسب المقهى شهرته كمجلس مفضل للمثقفين والفنانين: جمال الدين الأفغاني، وعمر مكرم، والشيخ البشري، وعبد الله النديم.. عرفوا الفيشاوي في زمانهم، ونجيب محفوظ أشهر رواده من المثقفين إلى درجة أن أصحابه أطلقوا اسمه على حجرة الأرابيسك التي تقع في أحد أركانه، وكان (محفوظ) قد اعتاد – يومياً – الخلو إلى جوها الهادئ، حيث كان عمله بمكتبة الغوري القريبة من المقهى عندما كان يعمل في وزارة الأوقاف. سجل الزيارات يصلح أن يكون حائط مجد خاصاً بالمقهى، حيث يضم مجموعة من التوقيعات والثناءات لعدد من كبار السياسيين والأدباء والفنانين من مصر والعالم العربي والعالم ، ومن بين الأسماء لاظوغلي باشا، سارتر وسيمون دي بوفوار، الإمبراطورة أوجيني، الشيخ محمد عبده، جمال الدین الأفغاني، سعد زغلول، مصطفی کامل، الموسيقار محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، جمال عبد الناصر، أنور السادات، محمد نجيب.. وغيرهم، وقد جمع أصحاب المقهى هذه التوقيعات التاريخية ووضعوها في دفتر خاص، يخرجونه - إلى اليوم - كلما زار المقهى أحد المشاهير ليتصفح مخطوط التوقيعات العتيق. أما مقهى ولي النعم، وإن كان أقل شهرة عن الفيشاوى، إلا أنه يشبهه فى العراقة والأجواء التاريخية ، ويبدو موقع المقهى القريب من مئذنة مسجد الحسين استراتيجياً في تلقي صوت القرآن والأذان – بخاصة – في شهر رمضان، فيكثر فيه تجمع الناس، وقبل خمسين سنة كان أغلبهم من سكان ضواحي القاهرة وبعض الأقاليم - في مقدمتها الصعيد - يمكثون في ساعات تلي الإفطار في المقهى لا يقطعون جلستهم إلا مع أذان العشاء، لتأدية صلاتها، ثم التراويح، يعودون بعدها إلى المقهى انتظاراً للسحور وأذان الفجر، وفي كل تلك الأوقات تتلى الأدعية والأوراد والسير الدينية. الحاج جلال السمنودي، وهو واحد من رواد المقهى التاريخيين مازال رغم تجاوز سنوات عمره الثمانين يحن إلى ذكريات ولي النعم الرمضانية، ويقول: هنا من جلستي في المقهى كنت أشاهد المسحراتي يمر بين الجالسين في هدوء يقطعه صوت الطبلة وبعض الأدعية وصوت امرأة من خلف المشربية تلقي ب "خمسة قروش فضة" على الأرض يلتقطها المسحراتي ويردد الأدعية لها، وتطلب المزيد فيقص عليها – وعشرات من جاراتها يسمعن - قصة لا تتغير كثيراً كل ليلة عن "ضرتين" ومشاجراتهما مع بعضهما وزوجهما، فتكون القصة تسليتهما حتى مطلع الفجر. مقهى الحرية أما مقهى "الحرية" فيعتمد في شهرته أساساً على موقعه الاستراتيجي في حي "باب اللوق" حيث أصبح ملتقى للمثقفين والأجانب، إلا أنه في رمضان يرتدي ثوباً مختلفا فيرتاده الكثير من الشباب والحرفيين الذين ينشدون سهرة رمضانية في مكان مفتوح بمنطقة في وسط البلد، ويجذبهم المقهى باتساعه وصخبه وماضيه الأرستقراطي الخاص، والمقهى يحتل الدور الأرضي من عمارة مشيدة على الطراز الإنجليزي وإلى اليوم لم تتغير ملامحه كثيرا باستثناء اختفاء صالتين للعب البلياردو في بداية السبعينات حيث لم يقبل عليهما أحد وحلت مكانهما الكراسي والطاولات لتزداد مساحة المقهى. ومنذ أن افتتح المقهى عام 1936 في قلب ميدان باب اللوق ، وهو موقع مهم سياسياً واجتماعياً لم يتغير إلا بعد عام ١٩٥٢، فقبل هذا التاريخ الأخير كان المقهى يقع على بعد أمتار قليلة من قصر عابدين مقر الحكم في تلك السنوات في مصر، وعلی بعد ۷۰۰ متر فقط من مکان تجمع الجنود الإنجليز الذي كان في موقع فندق الهيلتون حالياً في طرف ميدان التحرير، وفي الوقت نفسه كانت منطقة باب اللوق بالإضافة إلى جاردن سيتى والزمالك من الأحياء المفضلة لسكنى الجاليات الأجنبية، وطوال الأربعينات يتذكر أقدم عمال المقهى أن الإقبال كان كبيراً جدا من جانب الجنود الإنجليز، وخاصة في ساعات الليل وكان "البار" الملحق بالمقهى هو المكان المفضل لتجمعهم، وسر إقبالهم عليه يرجع لأسعاره الزهيدة مقارنة بالبارات الأخرى في ذلك الوقت إضافة إلى سمعة المقهى المميزة من حيث جودة مشروباته ونظافتها ولطافة عماله. أما مقهى"الندوة الثقافية" فيروي مدحت جمال أحد رواده الدائمين جزء من تاريخه بأنه في عام 1962 افتتح وظل تجمعاً كبيراً لعدد من الكتاب والأدباء والصحفيين والفنانين، الذين استمر ارتباطهم بالمقهى إلى الآن، وهو ما دفع أصحابه لتسميته ب "الندوة الثقافية". يتكون المقهى من صالتين في الخارج والداخل بينهما ساحة صغيرة، كل مقاعده وطاولاته مصنوعة من الخشب، ومطلية منذ افتتاحه بلون بني محروق ويحرص القائمين عليه على تجديده باللون نفسه في كل عام، وما أن تدخل إليه فتشعر بدفء خاص، من خلال الوجوه التي يعلوها وقار قديم، ثم هدوء واضح لا يقطعه سوى صوت النرجيلة، وهي أهم ما يميز ذلك المقهى طوال تاريخه، وخاصة أنه لا يقدم سوى دخان التنباك فقط كنوع من الحفاظ على نوعية خاصة من الزبائن، حيث لا يقبل الكثيرون على التنباك. ويبدو صوت "القرآن الكريم" من أهم ملامح المقهى، فهو لا ينقطع طوال الوقت ترحماً من أصحابها على روح والدهم، وبعثاً للطمأنينة بين الزبائن الذين تعلموا الصمت، وهو ما يغلب على المكان معظم الوقت، حيث لا يوجد أثر للطاولة أو الدومينو، ولا أية وسيلة تسلية منذ افتتاح المقهى إلى الآن. خدمة (وكالة الصحافة العربية)