مادام السفر انتقالا إلى ال«هناك» وإلى اللامألوف في عوالم أخرى بعيدة، فهو يُعد طريقة للنظر والإحساس تسمح للمسافر بالارتماء في ال»هناك» وفك شيفراته وتفسيره وتقريب عوالمه المثيرة، وهو ما يجعل من فعل السفر حالة ذهنية للمسافر، ووعيا يستنفر فيه هذا الأخير كل حواسه، بدون تغييب أهوائه وانفعالاته عله يقبض على ال»هُناك» وعوالمه والمثير واللافت فيه في كامل طراوته وفي تميزه واختلافه. ينطبق هذا الكلام على الشاعر المغربي عبد الله صديق في يومياته المعنونة ب«طبق الغموض أيام في لبنان» الصادرة عن دار السويدي 2018، التي دوّن فيها وقائع سفره إلى لبنان، التي سافر إليها مدفوعا، أولا، بحب قديم لعاصمتها مدينة بيروت خلقته مقروءاته في صفحات الجرائد، وقصائد نزار القباني ومحمود درويش، ورواية صنع الله إبراهيم «بيروت بيروت»، وسماعه لأغاني اليسار السبعيني وأغاني السلام لفيروز، وموجها، ثانيا، برغبة دفينة في اكتشافها، علّه يقبض عليها في كامل دهشتها، معتبراً أن حلوله بلبنان حلم قديم قد تحقق في هذه الأيام. لكن خيبة بعض المشاهدات تشوش على دهشة الكاتب المأمولة وتجعله يستفيق من حلمه الجميل أمام فداحة الواقع في كثير من الأحيان يستنفر عبد الله صديق في كتابة هذه اليوميات، التي غطت ثمانية أيام من يوم الخميس 13 أبريل/نيسان إلى الخميس 20 أبريل 2017، كل حواسه تقريبا؛ حاسة البصر التي لا تفوت التقاط كل المشاهد المرئية اللافتة (المعمار والجداريات والكتابات على الجدران والعارضات التشويرية وصور الأمكنة والواجهات) وتلتقط أذناه كل الأصوات المسموعة (صياح الباعة، الآلات الموسيقية، أغاني فيروز، الطرب، أجراس الكنائس، زقزقة العصافير) ويتذوق لسانه ما لذ وطاب من كل النكهات المذوقة (الأطعمة والمأكولات والمشروبات) ويشتم أنفه كل الروائح المشمومة جيدها ورديئها (روائح المأكولات والمشروبات والبضائع ومجاري الصرف الصحي ودخان مواقد الشي والمدن) لتبدو هذه اليوميات مكتوبة بحواس الشاعر.