التعامل مع الدين بكونه نسقا ثقافيا ضمن النسيج الثقافي المجتمعي يستلزم بالضرورة نوعا من “الأريحية” الفكرية والاسترخاء العقلي الذي يبتعد عن اعتماد المقاربات الأصولية المعتمدة. “الله والفيزياء الحديثة” هو عنوان كتاب كتبه قبل بضع سنوات بول ديفيز الفيزيائي النظري المرموق على الصعيد العالمي والمعروف باشتغالاته المركّبة التي تمتدّ على طيف واسع من الاهتمامات المميزة للفيزيائيين البارزين. ألّف الرجل مجموعة رائعة من الكتب وساهم في تحرير بعضها الآخر، وتُعدّ موضوعة المقاربات المعاصرة وغير التقليدية بين العلم واللاهوت واحدة من موضوعاته الأثيرة. كتب الرجل كتابا مهمّا بعنوان “عقل الإله: أساس عقلاني لعالم منطقي”، جذبتني في مقدمته العبارات الكاشفة الآتية: فمن بين العلماء غير المتدينين بالمعنى التقليدي للكلمة، نجد كثيرين يعترفون بشعور غامض بوجود “شيء ما” خلف سطح حقيقة الحياة اليومية، معنى ما خلف هذا الوجود؛ فثمة إحساس طاغ لدى أوساط أكثر العلماء راديكالية يجوز لنا أن نسميه: تبجيل الطبيعة، افتتان واحترام لجمالها وبُعْد غورها وحتى حماقتها، وهذا الشعور مماثل للرهبة والخشوع الديني. حقا يكاد المرء يندهش لفرط الكياسة ورقة الروح التي تنطوي عليها هذه العبارات المشعة رغم أن الرجل يقارب موضوعة غاية في الأهمية والحساسية: تلك التي ترى أن ثمة عقلا كونيا قادرا على اجتراح الأعاجيب الكونية في إطار مخطط كوني مدهش يميل إليه الكثير من العلماء المرموقين، ولكن بلا أي توجه لمأسسة هذا الاعتقاد وتجسيده في إطار مؤسسات دينية بيروقراطية تميل حتما إلى فرض نوع من ثيوقراطية (معلنة أم مضمرة). وسيقود ذلك الاعتقاد حتما إلى نزع ثياب اللاهوت الثيوقراطي المدعم بسلطة كهنوتية عن عقل الإنسان، وسوف تُحلّ حينها المسألة الإيمانية من معضلة إشكالية -سُفكت في سبيلها الكثير من الدموع والدماء- إلى محض قناعة شخصية تحكمها قواعد فلسفية وجمالية ترمي إلى رفع منسوب الدهشة المنتجة المفضية إلى الارتقاء بنوعية حياة الكائن البشري وغيره من الكائنات. يحيلنا بول ديفيز إلى فضاء مدهش من فضاءاتنا الإنسانية القليلة التي جاهدت في إعادة تشكيل صورة اللاهوت الكهنوتي وبثّ إشعاعات الحرية في علاقة الفرد بالقوة العلوية “دعك من موصوفاتها وقدراتها فذاك ليس بالأمر الشاغل”، ويُلاحظ في هذا الشأن أنّ الدين لدى الغربيين بات نسقا ثقافيا يمكن تناوله من وجهات نظر عدّة وبحسب طبيعة الاشتغالات المعرفية لمن يتناوله، وما عاد احتكارا خالصا مسجّلا باسم المؤسسة الدينية (الكنيسة مثلا). هناك ما يجب التأكيد عليه في هذا الجانب: إنّ التعامل مع الدين بكونه نسقا ثقافيا ضمن النسيج الثقافي المجتمعي يستلزم بالضرورة نوعا من “الأريحية” الفكرية والاسترخاء العقلي الذي يبتعد عن اعتماد المقاربات الأصولية المعتمدة؛ إذ لا يجب أن نركّز حديثنا دوما على الأصوليين الدينيين ونتناسى وجود الأصوليين العلمويين الذين قد يفتقدون الكياسة أحيانا في التعامل مع الشأن الديني وملابساته ويلحّون في تطبيق مسطرة العلم وحججه المنطقية الصارمة على الموضوعات الدينية. وهم إذ يفعلون هذا يتجاهلون أنّ فضاء العلم غير فضاء الدين، وأنّ كلّا منهما مصمّم لأداء أغراض تختلف عن الآخر، وربّما يذكّرنا بعض عتاة العلمويين المتعصبين (مثل ريتشارد دوكنز) في موقفه المتطرف من المتعاطفين مع الدين بموقف بعض الأنثروبولوجيين الأصوليين الإزدرائي من القبائل الأفريقية ومستوطني غابات الأمازون.