يعيد المخرج والكاتب المسرحيّ اللبنانيّ ميشال جبر تقديم مسرحيّته «كيفِك يا ليلى؟» على مسرح المدينة (الحمراء، بيروت) بعد عرضها على خشبته لمرّة واحدة سابقاً، لمناسبة الاحتفال بمرور عشرين سنة على قيام المسرح. ويقدّم جبر في ساعة من الزمن نصّاً مونولوغياً مشحوناً بالغضب والحزن والوحدة، مونولوغ امرأة لم تتصالح مع نفسها بعد وما زالت تحاول اكتشاف الأنثى التي فيها. يذكّر عنوان المسرحيّة «كيفِك يا ليلى؟» بسؤال تطرحه أغنية الأطفال العتيقة «يا ليلى ليش عم تبكي؟». فليلى تبكي على خشبة المسرح بحرقة ويأس. تفضح ألمها وحزنها ووجعها وتلقي بالتابوات الاجتماعيّة التي نغّصت عليها حياتها أمام المتفرّج الذي لا يمكنه إلاّ أن يتفاعل معها بفضل الأداء المتقن للفنّانة اللبنانيّة الشابّة نيلّلي معتوق. "كلّ شيء حولي بارد. بارد ومهجور... خايفة. وحيدة وخايفة..." تجسّد معتوق باحتراف جميل دور ليلى، فتعابير وجهها ونبرة صوتها وحركات جسمها وتنقّلها السلس العفويّ على خشبة المسرح تنقل وجع ليلى إلى الجمهور المقطوع الأنفاس. ففي ضوء خافت هادئ، وسط ديكور خشبيّ عتيق تسرد ليلى قصّتها، تسرد تارةً بسخرية ساخطة وطورًا بغضب موجوع، لينتقل الجمهور مع ليلى إلى غياهب حياتها الفوضويّة الحزينة. وليلى امرأة لبنانيّة من طرابلس تعاني منذ صغرها من قسوة المجتمع وتسلّط الرجل أكان صديقًا أو حبيبًا أو والدًا. وطيلة المسرحيّة التي تدوم نحو الساعة لا أكثر، تحاول ليلى أن تجيب عن السؤال «كيفِك؟» أو بالأحرى «كيف هي علاقتك بجسمك؟» تروح ليلى تتحدّث طارحة أسئلة وجوديّة، أسئلة امرأة حُكم عليها بالسجن داخل جسم لا تحبّه في مجتمع لا يتقبّلها. وعلاقة ليلى بجسمها هي محور المونولوغ وهدفه والإطار الذي يحدّد مساره. فمنذ صغرها وليلى موجوعة من جسمها. لا هي تقبله ولا هي قادرة على إقناع مجتمعها بقبوله. لا هي قادرة على التحرّر منه ولا هي قادرة على التعايش معه. فترتمي في شباك المخدّرات والجنس والطعام المفرط، ترتمي في شباك كلّ ما يمكن أن ينسيها وجعها الأوّل: جسمها. لكنّها لا تفلح. يتضاعف الألم وتجتاح الفوضى حياة ليلى ووجدانها لتتحوّل إلى امرأة تبحث عن نفسها عبثًا. يطرق جبر في مسرحيّته هذه مواضيع اجتماعيّة شائكة كما هي عادته في ذلك. وطالما اشتهر مسرح جبر بمعالجته مسائل تتعلّق بالمرأة اللبنانيّة ومشاكلها: جسدًا وفكرًا ووجدانًا. فيتناول جبر في نصّه مسألة فقدان المعايير الأخلاقيّة والتربية السيئة التي تحطّم الفتاة وتزرع فيها عقدًا نفسيّة، كما يسلّط الضوء على ظاهرة تفشّي المخدّرات بين الشباب اللبنانيّ. ويتوقّف جبر مطوّلاً عند المخدّرات والجنس كما يعود إلى العلاقة العقيمة بين الرجل والمرأة كما يراها المجتمع. وعلى رغم أهمّيّة هذه الموضوعات وضرورة تسليط الضوء عليها عبر الفنّ إلاّ أنّ شيئًا من التوهّج كان ينقص نصّ جبر. بدا نصّ جبر مغرقًا في السوداويّة. وعلى رغم سلاسة اللغة اللبنانيّة العامّيّة المستعملة في المونولوغ، ظهرت تعابير وجمل بالفرنسيّة لا مكان لها ربما في خطّ الأحداث ولا تتماشى مع شخصيّة ليلى. فليلى الفتاة اللبنانيّة التي نشأت في طرابلس ثمّ في السعوديّة، الفتاة التي تذهب إلى البقاع لتشتري الهيروين لن تُدخل جملاً معقّدة بالفرنسيّة في كلامها لمجرّد الحاجة إلى التعبير عن نفسها أو لعجزها عن التعبير عن نفسها بالعربيّة. فلماذا هذا الافتعال اللغويّ؟ مونولوغ اللا انتماء تروي ليلى في ساعة قصّة ضياعها. تحاول أن تعبّر عن نفسها، أن تجد إجابات لسؤال: كيفك، كيف علاقتك بجسمك؟ تصف مشاعر الذلّ والذنب والحنق. تسرد الفراغ الذي يعشّش في جوفها وعجزها عن حبّ نفسها أو النظر إلى جهها في المرآة. تتناول قصّة مجتمع يسجن المرأة في قواعد وأنماط تقليديّة، مجتمع يحدّد للمرأة الصفات التي يجب أن تتمتّع بها. يجب أن تكون المرأة جميلة ومثيرة ومغرية وعفيفة. لا للوزن الزائد. لا للجنس. لا للحرّية. لكنّ ليلى لا تنتمي. تعجز عن إيجاد مكانها أو صوتها. تشعر وكأنّها سجينة مرميّة في بئر معزولة. علاقتها بوالدها سيئة. علاقتها بنفسها مهشّمة. علاقتها بجسمها قبيحة. فإلى أين الملجأ؟ تعجز ليلى عن أن تكون المرأة التي يريدونها فتبقى عالقة في الوسط. نصف امرأة. نصف إنسان. نصف كائن حمله ميشال جبر من عتمة الوجود إلى خشبة المسرح شبه المعتمة: «أنا صوت حزين ضائع. لا أحد يسمع. حتّى القناديل المنوّصة مش عم تسمعني».