تحتوي القاهرة القديمة على تحف معمارية خلفتها العصور الإسلامية منذ العصر الفاطمي، مروراً بالمملوكي والعثماني والتي لا تزال قائمة حتى الآن. ويعتبر بيت "زينب خاتون" الذي يقع خلف الجامع الأزهر من أهم البيوت الأثرية، والذي أصبح بعد ما تم فيه من أعمال الترميم والتجديد غاية في الروعة والجمال والإتقان، مما جعله مقصداً للزائرين المصريين والعرب والأجانب، وأيضا لمخرجين ومنتجين الأفلام والمسلسلات التاريخية الذين يقومون بتصوير أعمالهم الفنية فيه، كما تقام بشكل دوري بين جدرانه حفلات موسيقية وفلكلورية. يقع منزل زينب خاتون في قلب القاهرة القديمة عند تقاطع عطفة الأزهري مع زقاق العنبة خلف الجامع الأزهر، ووسط مجموعه رائعة من الآثار الاسلامية، ويرجع تاريخ إنشاء البيت إلى القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي. ويعد أحد الأمثلة البارزة لمنازل العصر المملوكي، لما فيه من إبداع فني يمثل هذا العصر من حيث التخطيط الذي يتناسب مع طبيعة سكان المنزل من طبقة الحكام والأمراء في هذه الفترة، ويحتوي على عناصر معمارية وزخرفية مختلفة من شبابيك ومشربيات وأسقف خشبية وكوابيل مزخرفة ومذهبة وأرضيات رخامية وغيرها. يتحدث رمزي الجوهري الخبير الأثري عن تاريخ البيت قائلا: "كان هذا القصر، في البداية، ملكاً للأميرة شقراء هانم حفيدة السلطان الناصر حسن بن قلاوون أحد سلاطين المماليك، وظل يتوارث من قبل أبنائها حتى دخول العثمانيين إلى مصر عام 1517، ثم اشتراه الأمير الشريف حمزة الخربوطلي وقام بإهدائه إلى زوجته الأميرة زينب التي كانت إحدى خادمات الأمير المملوكي محمد بك الألفي، والتي كان قد قام بعتقها قبل ذلك، وأضيف إلى اسمها لقب خاتون أي الشريفة الجليلة، فأصبحت زينب خاتون، وسمي البيت على اسمها منذ ذلك الحين". وعن السبب في تحول زينب خاتون إلى شخصية تاريخية نقلت حكاياتها الكتب من جيل إلى جيل، يحكي الجوهري أن الخاتون كان لها دور وطنيّ مهم في النضال ضد الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، حيث كانت تؤوي الفدائيين والجرحى الذين يلجأون إلى البيت عندما يطاردهم الفرنسيون، والدليل على هذا العثور على 27 جثة دفنت في سرداب تحت الأرض، يعتقد أنها جثث الجرحى الذين كانت زينب خاتون تأويهم داخل بيتها. ويتابع قائلا: في عام 1942 انتقلت ملكية البيت إلى وزارة الأوقاف المصرية التي قامت بتأجيره للعديد من الشخصيات، والتي كان منها قائد عسكري بريطاني يسمى بالجنرال "دوين" إبان فترة الاحتلال البريطاني لمصر، والذي قام ببناء النافورة داخل الصحن الرئيسي للمنزل أثناء استئجاره له. وفي سنة 1953 قامت وزارة الأوقاف بتأجيره مرة ثانية لوزارة الشئون الاجتماعية، فاستخدم كمشغل لتعليم الفتيات فن التطريز والحياكة، وظل المنزل على هذا الحال حتى أواخر سنة 1981 حيث حدثت فيه تصدعات خطيرة أدت إلى تشققات طولية وعرضية بالجدران، مما استلزم إخلائه وترميمه. ترميم أثري جاء مشروع ترميم المنزل في إطار خطة قطاع الآثار الاسلامية والقبطية بالمجلس الأعلى للآثار لتعيد للمنزل رونقه كما كان وقت الإنشاء، وشارك في تنفيذ المشروع عشرات من خبراء المجلس من أثريين ومهندسين ومرممين وحرفيين والذين اتبعوا المنهج العلمي في مراحل العمل المختلفة سواء عند إعداد المشروع أو أثناء التنفيذ، حتى خرج العمل على هذه الصورة الرائعة التي تتناسب مع قيمة هذا الأثر المعماري الاسلامي. لعل التجول في منزل زينب خاتون، من أجمل المتع الممكن الحصول عليها خلال التجوال في مصر القديمة، لأن السير في دهاليز هذا البيت الكبير يعيد المرئ إلى الأمس البعيد رغما عنه، ويجعله يفكر بالأشخاص والحكايات التي مرت عليه. يتكون المنزل من طابق أرضي يتوسطه صحن مكشوف وطابقين علويين، ويضم الطابق الأرضي واجهة رئيسية في الناحية الجنوبية، بها مدخل رئيسي منخفض يؤدي إلى ممر منكسر الزوايا، وعلى يمينه مكان الطاحونة الخاصة بالمنزل والمطل على صحن مربع الشكل، وفي ضلعه الشرقي باب يؤدي إلى القاعة أو المندرة الخاصة بالنساء (الحرملك)، وفي الطرف الشمالي من نفس الجهة باب يوصل إلى السلم المؤدي إلى الطابق العلوي الأول حيث القاعة الرئيسية الكبرى. وفي الجهة الغربية باب يوصل عبر سلم صاعد إلى القاعة الصغرى وملحقاتها، وفي الجهة الشمالية بابان صغيران يستخدمان لتخزين متعلقات المنزل، وفي جهته الجنوبي سلم يفضي إلى المقعد الصيفي، وتشاهد في هذا الطابق مقعدا صيفيا مستطيلا يشرف على الصحن ببائكة ذات عقدين يتوسطهما عمود رخامي، وبه عدة دواليب حائطية ذات أرفف خشبية لحفظ حاجيات صاحب المنزل، في ضلعه الشرقي باب يفضي إلى خزانه نومية أعلي جدرانها شريط كتابي يتوسطه رنك الكأس، وهو الشارة الرسمية لوظيفة الساقي في العصر المملوكي. أما القاعة الكبرى في هذا الطابق، فهي عبارة عن مساحة مستطيلة يغطيها سقف خشبي مزين بمربعات ومستطيلات ذات زخارف نباتية عثمانية الطراز، تتكون من تفريعات وأوراق وزهريات مملوءة بالورود تتوسطها قاعة فرشت أرضيتها برخام ملون دقيق؛ ويكتننفها من الناحيتين الشمالية والجنوبية إيوانان، فرشت أرضية كل منهما ببلاطات من الحجر المعصراني المستطيل، في الشمالي منها عدة دواليب حائطية ذات درف خشبية. وفي الناحية الجنوبية صدر خشبي مقرنص، كان في أسفله سلسبيل رخامي لتبريد الماء. وتشرف القاعة الكبرى على الصحن بمشربية من خشب الخرط الميمون الدقيق ذات أشكال هندسية وكتابات قرآنية. وتأتي القاعة الصغرى في الضلع الشمالي من القاعة الكبرى، وهي عبارة عن مستطيل تتوسطه درقاعة يكتنفها ايوانان صغيران، وتشرف هذه القاعة على الصحن بمشربيات من خشب الخرط الميموني تعلوها نوافذ من الجص المعشق بالزجاج الملون في عناصر نباتية وهندسية وأشكال زهريات، فضلا عن كتابات عربية أهمها البسملة، في الضلع الشمالي لهذه القاعة باب يوصل إلى الحمام الخاص بها وبملحقاتها. أما الطابق العلوي الثاني فيضم قاعة صغيرة وغرفة ملحقة بها ذات مستويين بها دورة مياه ومطبخ صغير وممر يربط بينهما جميعا، ويشرف هذا الطابق على الصحن بشباكين أولهما من الخرط الميموني تزينه زهرية، والشباك الثاني من الجص المعشق بالزجاج الملون تزينه زهرية أخرى تخرج منها فروع نباتية بالغة الدقة والإبداع، ويعلو هذا الطابق سطح المنزل ويضم شخشيتين أحداهما فوق القاعة الكبرى والأخرى فوق القاعة الصغرى. يذكر أن المنزل بالإضافة إلى مكانته الأثرية، فقد فتح أبوابه للنشاطات الثقافية والفنية، فضلا عن استقبال عدد كبير من السائحين ومحبي الآثار الاسلامية من كل أنحاء العالم. (خدمة وكالة الصحافة العربية)