القصة القصيرة بما تحويه من فكر وتشخيص واستعارة للوقائع تصبح محورًا للبحث عن فكرة التعبير الذى يحمل قضية واتجاهًا. وتكمن صعوبة دراستها في احتياجها لصبر ودأب يمكنان الباحث من الوقوف على تيارات الواقع، وفك رموزه، واستعراض قضاياه، وهذا ما حاوله د. نادر عبدالخالق أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر، في أحدث كتبه "القصة القصيرة.. قضايا واتجاهات" الصادر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب حيث يرصد الاتجاهات التعبيرية والتيارات الفنية التي تشكلت من ملامح الواقعية الجديدة المتعلقة بذات المبدع. والكتاب ينقسم إلى جزئين أولهما مدخل نظري، والثاني يتضمن عددا من الدراسات التطبيقية لإبداعات عدد من الكتاب ينتمون لأجيال شتى، ويمثلون تيارات إبداعية مختلفة. أما الجزء النظري وعنوانه "مدخل موضوعي في قراءة الاتجاهات القصصية" ويخصصه المؤلف لدراسة أربعة اتجاهات تعبيرية هي: الواقعية والتعبير السياسي تقدم القصة القصيرة تفسيرًا فنيًا للظواهر الإنسانية والاجتماعية، متجاوزة حدود الزمان والمكان، وحريصة على عدم الوقوف داخل حدود الحكي، فتصبح المعالجة التعبيرية بمثابة حياة جديدة بشكل فني، ويكون التخييل عملية بنائية يسعى المبدع لتحقيقها، وكذلك تكون الرموز والصور المركبة متخيلات وعائية تحوي الواقعين (الحقيقي والمتخيل) المتصارعين في فضاء النص. ويرى الباحث أن قوة الكاتب تتجلى في قدرته على إحداث الموازاة الداخلية للصور الجزئية بأنواعها، وأيضا في الوظيفة الرمزية للتعبير الفني. كما يقرر أن الظواهر الإنسانية والتطلعات الاجتماعية التي تعقب المنجزات السياسية تكون هدفًا للتجارب الأدبية كما حدث مع انتشار الاشتراكية خلال القرن المنصرم، "حيث رأينا نماذج من الشخصيات المتآكلة والمهمشة (…) ورأينا الطفرات التي واكبت هذه المجتمعات ودور الأدب فى توجيه الفكر السياسي". سيكلوجية التعبير القصصي يختلف التكوين النفسي من مجتمع لآخر، كما يختلف من شخص لآخر، فلا يوجد تطابق بين سمات الأشخاص إذا رصدت سماتهم حسيًا ومعنويًا بينما يتفق الجميع في التأثير النفسي وفي الحاجة لتتبع الظواهر العامة وترجمتها إلى واقع نفسي يمكن بواسطته تفسير النفس والمجتمع. ويكون الواقع الأدبي معنيا بالمراقبة والوقوف على تيارات الحياة والمجتمع، ودور الأديب هنا أن يطرح هذه الإشكاليات في صور فنية تجمع بين الجمال الفني والمعالجة الموضوعية. فيصبح النص محاولة لاستقراء الحياة وتقديم وجهات النظر المختلفة شريطة ألا تتناقض مع العملية الإبداعية الجمالية والموضوعية. وتكون الصورة التشخيصية هي أكثر العناصر استيعابا لمثل هذه الموضوعات، نظرا لما تتضمنه الصورة من وصف وتجسيد كلي لا يقف عند حدود الحس المادى، وإنما يشمل كل الدلالات المعنوية والشعورية. والشخصية في القصة هي الركن الركين الذي تدور حوله الفكرة المعبرة عن القضية التي يطرحها النص، وهي تشير إلى الخيال الفني ومساحة التأويل في الصورة التعبيرية، ومن ثم الاشتباك ذهنيا ونفسيا مع المتلقي كضمير مرادف للحقيقة، ورؤية أحادية خاصة تعيد اكتشاف الواقع من زاوية جديدة. وحتى يكون الرمز مصاحبا لدلالة فنية وتعبيرية يجب أن يكون مستمدا من إشارات موضوعية ذات صلة بالواقع. ويكون للرمز علاقة وطيدة بالشعور قبل التأثير وبعده، متجاوزا الدلالة الحدسية المادية، وصولا إلى الناحية النفسية كرافد استعاري قائم بذاته. وتكتسب الشخصية الرمزية القدرة التأثيرية المركبة التي تتم وفق علاقة حركية جمالية، تعتمد على استحضار الصور المركبة المفردة، التي تتمثل في رؤية تشكيلية للرمز ونظيره في الخيال وفي الواقع. لا يتجاوز السرد الذاتي دلالاته المباشرة التي تعيها الذاكرة، أو تدرك محتواها الاجتماعي والسياسي، مما يحصره بين الرؤى الأولى القريبة لوعي الذات، وبهذا يصبح متخيلا نفسيا، يقدم الشخصية من عدة بناءات تمثل تطورا عاما للحياة وللمجتمع، ويكون البناء الفني ناتجا عن البناء الموضوعى، ويكون الواقع الذاتي عملية بناء متدرجة نحو تحقيق الشخصية، مما يتطلب وعيا كبيرا باللغة وقيمها التعبيرية. تبدل الواقعية بعد أن عرض الباحث لفكرته في الجزء الأول عمد إلى التطبيق في الجزء الثاني، وقد رصد مجموعة من الدلالات الفنية والموضوعية ذات الصلة بالكاتب، والواقع كحياة عامة تستوعب ملامح التعبير والتحول الاجتماعي. وقد امتد ذلك ليشمل الإطار الفني والشكل العام للنصوص، فمثل التكثيف الفني ورؤية الكاتب الذاتية محورين تباينت فيهما القضايا والاتجاهات، ولاحظ الباحث أن القضايا التي تحويها القصة المعاصرة قد تنامت وأخذت أشكالا مغايرة، من حيث النمط المعرفي ومن حيث الاندماج مع ذات الكاتب، مما أدى إلى تبدل الواقعية، وأفرز واقعية أخرى تبدو مختلفة لقدرتها الفنية والموضوعية على التنويع والدخول في عالم النص بواسطة القضية وعناصرها الفنية كما حدث في قصص يوسف إدريس وسمير ندا من تداخل تعبيري ساعد على تشكيل الفكرة من اتجاهات تبدو متناقضة في الواقع لكنها متحدة في الهدف والمصير. وقد امتد هذا التيار في قصص الأجيال التالية لإدريس وندا، في صور وأشكال تعبيرية تتفاوت فيها الرؤية والدلالة، في اتجاهات جديدة تتعلق بالرمز والتيار النفسي وانعكاس ذلك على فنية القص، وهو ما لاحظه الباحث في قصص "تراتيل وحكايا أخرى قصيرة" لأحمد الباسوسي. ولاحظ الباحث أيضا وضوح فكرة الذاتية في قصص مجموعة "العزومة" لفكري داود التي يصفها بأنها مثلت اتجاها مستقلا يعكس تاريخ الواقع وذاتية الكاتب. أما مجموعة "أحلام عاجزة" لفرج مجاهد، فقد اعتمدت الوصف كأحد مفاتيح التعبير وطرح الأفكار في تنامٍ فكري مباشر، بينما تبنى عبدالحافظ ناصف الفكر النقدي الاجتماعي عبر اهتمام نصوصه بتحليل الواقع واتجاهاته المختلفة كما بدا جليا في قصص مجموعته "من حكايات البنت المسافرة". وأخيرا لاحظ الباحث أن الرمز والتشكيل التعبيري الخيالي كانا من سمات الفن القصصي عند العراقية وفاء عبدالرازق، والمصرية هيام صالح، وقد اعتمدتا في نصوصهما على ثنائية التكثيف وعقد مقارنات موضوعية تداخلت فيها الفنون والأشكال، كما تداخلت الإيحاءات الشعرية الرمزية في البناء الفني لنصوصهما. يذكر أن كتاب "القصة القصيرة .. قضايا واتجاهات" لمؤلفه د. نادر عبدالخالق، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017 ، ويقع في نحو 336 صفحة من القطع المتوسط. (خدمة وكالة الصحافة العربية)