يقول أديب اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب "مشاهدات وانطباعات من الشرق والغرب .. رؤية يمنية في أدب الرحلات" للسفير عبدالوهاب العمراني: إن في هذا المؤلف القيم إضافات لم تكن في الطبعة الأولى، ولقد احتفيت بالطبعة السابقة ورأيت فيه مساهمة يمانية في فتح نوافذ جديدة نرى من خلالها جوانب من العالم الذي لم نره بعد، ولكي نقترب من اكتشاف العوالم الظاهرة التي قد تؤدي بنا حتماً إلى اكتشاف أعماق الروح الإنسانية وما أنجزه الإنسان على ظهر الأرض من إعجاز في المعمار والطرقات والحدائق، وما توصل إليه من أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية .. الخ وبديع وفاتن هو أدب الرحلات، ويمكن القول إنه بات في الآونة الأخيرة بخاصة ينافس الشعر والرواية لدى القارئ الباحث عن المعرفة والمتعة والرؤية الفنية للأشياء والكائنات. وكتاب الصديق السفير العمراني ليس دراسة في أدب الرحلات لكنه فصل من فصول الرحلات المهمة التي حرصت على تقديم أجزاء من هذا العالم عبر الانطباعات العميقة والمشاهدات المتأنية. وما أحوج البشر إلى مثل هذه الكتابات، لاسيما الغالبية العظمى منهم الذين لم تتح لهم الظروف مبارحة أوطانهم فاكتفوا بأن يتعرفوا على العالم من خلال حدقات الرحّالة الذين لم يستأثروا لأنفسهم بما رأوه ووعته ذاكرتهم في كثير من خواطر العام، بل كانوا أحرص على أن يشاركهم القارئ متعهم ومرائيهم، وهو نوع من الإيثار جدير بالتقدير والإعجاب. واللافت في زمننا أن الأرض التي كانت إلى عهد قريب تترامى إلى آماد يصعب الإحاطة ببعضها، قد جعلتها المعرفة الحديثة تنكمش في وعينا الحاضر إلى درجة جعلت البعض من أبنائها يعتبرونها قرية صغيرة يمكن التجول في أحيائها وشوارعها بسهولة. وليس الفضل في ذلك لوسائل الإيصال والاتصال وحدها، بل ولهؤلاء الذين يتنقلون فيها من مكان إلى آخر تصاحبهم أقلامهم وأحياناً كاميراتهم ليقرّبوا بها البعيد. وتبقى الأقلام في جميع الحالات أكثر قدرة على الإمساك بحقائق هذه الأرض وخفاياها من الصور الجامدة أو المتحركة. وهي - أي الأقلام - أصرح وأصدق من خلال الكلمات التي تتكلم عن تكوينات البلدان، وآثارها وتاريخها وعقائدها وتقاليدها، وما يتميز به هذا البلد عن غيره من مناظر طبيعية أو مواقع تاريخية. ويضيف المقالح: لا أخفي أن هذا الكتاب قد أمتعني وأضاف إلى معلوماتي الكثير مما كنت أجهله عن عدد من البلدان التي زارها مؤلفه وأمضى في بعضها وقتاً كافياً يمده بما يرغب فيه من تكوين رؤية الباحث المتتبع لا الزائر السائح العابر الذي ينظر إلى واجهات المدن لا إلى روحها وأبعاد مكوناتها الثقافية والحضارية وما يشغل أبناءها من هموم وما تحركهم من آمال. وإنني ومعي ألوف القراء نغبطه على الظروف التي هيأت له القيام برحلاته الشرقية والغربية ومكنت له من الاطلاع الواسع على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلدان التي زارها أو أقام فيها أثناء عمله الدبلوماسي والتي استطاع خلالها أن يختزن في ذاكرته كما في يومياته جوانب مهمة من المشاهدات والانطباعات الواقعية. في المقدمة التي كتبها المؤلف أكثر من إشارة إلى أهمية الترحال وإلى ضرورة أن يكون الرحالة واعياً لهدفه باحثاً في البلدان التي يزورها - كما يقول - عن القيمة والمعنى، وليس عن التسلية وشغل القارئ بالسطحي من الأمور، وهذا ما يؤكد أنه كان قد استعد لذلك بقراءة قائمة من كتب الرحلات القديم منها والحديث ليتمكن في رحلاته الشرقية والغربية من تمثل القيمة والمعنى لهذه الرحلات، وأعتقد أنه نجح إلى حد بعيد فجاءت رحلاته تطبيقاً لما هدف إليه، كما جاءت لغة الكتاب بديعة تلقائية خالية من التكلف والتصنع يمكن للقارئ متابعتها بسلاسة وبسر، وكلما قطع جزءاً من الكتاب زاد شوقه إلى استكمال بقية الأجزاء. وبوصفي واحداً من أوائل قرائه أتمنى أن يواصل السفير العمراني كتاباته عن أسفاره. بينما أشار السفير اليمني السابق في اليونسكو حميد العواضي في مقدمة الطبعة الثانية بأن أهمية هذا الكتاب في أنه قد نجح في أن يجمع بين المنزع التقريري والمنزع التفسيري من ناحية، وبين الوجهة الأدبية والوجهة الإعلامية من ناحية ثانية، كما جمع بين الملاحظة الفردية والرأي العام المشهور، والخاطرة المرتجلة والمعلومة الموثقة. وبالتالي فإن قراءة متأنية له تبوؤه موضعاً وسطاً بين أدب الرحلات والجغرافيا الثقافية والخواطر الذاتية، باعتبار أن الجغرافيا الثقافية تقربه من الاختصاص العلمي التقريري بما يتضمنه من معلومات فكرية وأدبية وفنية وتاريخية وسياسية واقتصادية وسياحية. وأدب الرحلات يشده إليه بما انطوى عليه من وصف وعرض ولغة. وقد تبدت الذات في حركتها المتنقلة في الزمان والمكان وتدخلها في توجيه المعلومة والرأي. هذا من وجه، ومن وجه آخر فإن المكتبة العربية واليمنية على وجه الخصوص تفتقر لهذا النوع من الكتب مقارنة بمجمل محتويات المكتبة العربية. ولعل السفير عبدالوهاب العمراني بكتابه هذا يعد أول مؤلف تناول بهذه الشمولية نطاقاً واسعاً من الدول والأماكن التي شملتها تلك المشاهدات أو في وصف أدب الرحلات كجانب نظري؛ حيث تضمنت مقدمة الكتاب طرفاً من تاريخ أدب الرحلات عند العرب وغيرهم منذ أقدم العصور وحتى عصرنا الحاضر. كما يحسب له أنه أوجز في هذا السياق دور اليمينين في هذا الجنس من الكتابة وفي سياق مقدمة الدكتور السفير العواضي يسترسل بالوصف بقوله: يجول بنا السفير والكاتب العمراني من خلال سطور كتابه برحلة في أصقاع متنوعة في العالم: بغداد، اسطنبول، أصفهان، تاج محل، جزر الملايو، سنغفورة. ثم يذهب بنا غرباً إلى المغرب الأقصى ويَجول بِنا في أزقة ومساجد فاس ومكناس وبوابات مراكش ويصعد بِنا إلى مُدن الأندلس غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها فضلاً عن مدريد تلك الحواضر العريقة التي يفوح منها عبق التاريخ العربي والإسلامي، ثم يصعد بنا شمالاً إلى باريس بألقها ورقتها وبروكسل عاصمة أوروبا ثم يختتم الرحلات في أقدم المدائن وأجلِّها عاصمة الإغريق. إن أهمَّ ما أحسست به بعد قراءة هذا العمل هو كيف أن الدبلوماسي ينبغي أن يكون همزة وصل بين بلدة وبلد اعتماده في نطاق مهمته الدبلوماسية، لكنه مطالب أن يكون ترجماناً بين الثقافات ينقل من هذه إلى تلك، ومن تلك إلى هذه في نتاج قابل للتداول والبقاء وقابل أن يتطور بتحول الأيام وتواليها. بينما كتب الكاتب العراقي الدكتور الراوي مشيداً بالكتاب قائلا "استقى الكاتب مصادره من أمُهات الكتب في هذا اللون من الأدب ولم يكتف بآخر ما يصدر من الكتب والدوريات، بل لاحظت اهتمامه بأقدمها وأشهرها عبر كل العصور ولاحظت أيضا همته ومثابرته وتيقنت عن قرب مدى عشق كثير من المثقفين اليمنيين للمعرفة رغم الظروف الاقتصادية والسياسية التي تلازم بلداننا العربية ومنها اليمن، الذي يمثل جيلا من الدبلوماسيين الموهوبين بملكات الكتابة الغنية بالثقافة المتنوعة، وما ان استهللت قراءة هذا الإنجاز الرائع وبرغبة مزدوجة إلا وقد انغمست في آفاق رحبة لبستان من المعرفة من خلال أدب الرحلات الذي خُيل لي أن الكتاب سيكون على غرار ما قرأته لكُتاب آخرين يحصرون اهتمامهم بالتركيز فقط على مشاهداتهم دون التعمق فيما وراء الأسباب كما يقول المؤلف (في رحلتي بين صفحات الكتاب سواء في المتن أو الهوامش). انتابني أحاسيس بعشق المعرفة واكتشاف المجهول وبعبق التاريخ الذي يلازم معظم فصول الكتاب، زادت من حبي لهذا النوع من الكتابات الشيقة ولاسيما أن كاتبه يُضفي عليها صبغة أدبية وبعمق تاريخي. لقد أذهلني حجم وكثافة المعلومات بين دفتي هذا الكتاب وفي مفردة واحدة ضمن أحد عشر موضوعا شملها الكتاب، وهي العراق، لقد عرفت خلال حواري مع مؤلفه مدى حبه لتاريخ العراق وشعبه ليس فقط لأنه عاش مع أقرانه أثناء دراسته الجامعية نهاية السبعينيات، ولكنه في مؤلفه كتب عن العراق بأحاسيس أبناء الرافدين ولفت نظري مدى غزارة المعلومات التي عكست لا شك معرفة ودقة في مصادر قد لا يعرفها الكثير من العراقيين أنفسهم، سواء بوصف المجتمع العراقي أو تاريخه الحديث ودياناته وقومياته. ولقد أعجبت بتواضع الكاتب في مقدمته عندما يقول: "لست شاعراً أديبا ولا مؤرخا، ولكني أحاول ببساطة نقل مشاعري في تجربة أدبية متواضعة". وقد أوصى هذا الباحث العراقي إضافة لمؤسسات أكاديمية اُهدي لها نسخة من الكتاب بأن يترجم للانجليزية ليعكس حضارة العرب من زاوية أدب الرحلات، وهذا ما سيعمل به المؤلف في خطته المقبلة. ويعكف الباحث العمراني في مسودة كتابه الأخير: التلاقح الحضاري بين العرب وجيرانهم.