هل يمكننا أن نقررَ في البداية أن الشعرَ هو فنُ الحيرةِ والغربةِ، كما هو فنُ الجمالِ والمتعة. وهذان القوسان اللذان يحيطان بهذا الفن قد يكثفان العالم ويجعلانه في قبضة اليد، أو يوزعانه هنا وهناك فيتشتت شظايا، ويصعب الحصول عليه. والشاعر هنا قد يمسك بمفاتيح الوجود، لكنه يخشي الإقتراب الكامل من أبوابه، ويظل أحيانا مراقبا .. أو مغتربا .. أو حائرا .. أو مترددا .. وإذا حاول الإقتحام تجمعت عليه أشباح وآلام فيخرج من هذه المعركة مثخنا بالجراح. لكن الشاعر الحق لا يستسلم لمجرد الهزيمة في معركة؛ وإنما هو سرعان ما يتسلح بكلماته المسنونة التي يوجهها مصقولة مشحوذة إلي كل قبيح، فيزيل عنه ملامح القبح، ويصعد به إلى نافورة الجمال، ويعيد تشكيل هذه الملامح بما يضيف للوجدان ما فقده من الإحساس والمتعة. ربما كانت تلك رحلة الشاعر مع الإبداع .. أخذ وَردْ .. قربٌ وبعدْ .. وصولٌ وغيابْ .. إستقرارٌ وغربة. وهذه العناصر هي التي تضمن للشاعر الإستمرار والإضافة .. فهي دراما متجددة بين الماضي والحاضر والآتي. واليوم نحن مع ديوان جديد لشاعر أخذ عدته الإبداعية وهبط في طلل بغداد، تلك المدينة الساحرة التي سجلت تاريخ العرب والمسلمين بأجمل حروف وسطور. إنه ديوان "وقوف جديد علي الطلل العربي" للشاعر ناجي عبداللطيف. ومن الوهلة الأولى، يدرك القارئ أن الشاعر هنا لا يحاكي وقوف القدماء علي الأطلال، لا بالبكاء ولا بالذكريات، لكنه إلى جانب ذلك يضيف رؤية عصرية، لأن أطلال بغداد أطلال عصرية أيضا، فلا يجوز أن يقف أمامها وقفة قديمة. ويتوسل الشاعر بالعناصر التي تسانده في رؤيته الجديدة، يتوسل بالبياتي وهو يبكي علي الحسين، وبالسياب وهو يذكر عيني حبيبته اللتين تشبهان غابة نخيل بساحة السحر، ويتوسل بفيروز وهي تغني لبردي وهو مشغول بمصير صديقه الفرات، ويتوسل بقيس .. ويزيد.. والحسين .. وصدام .. وغيرهم من الشخصيات التي تكتمل بهم أطلال بغداد .. ويبدأ الشاعر ليصدّر لنا إحساسه بالغربة حيث يقول: كان لنا وطنٌ ..، وسحابة عشق أبديهْ . لكن .. آثر أن يرحل عنا .. في رحلة تيه أبديه .! تلك هي بداية القصة، أما تفاصيلها فقد آثر الشاعر أن يحكيها عبر خمسة وثلاثين موقفا. إنه يبدأ رحلة الغربة فوق قارب في بحر لجي. وقد توحدت غربة الشاعر بغربة الوطن، لكن الشاعر هنا يعز عليه هذا الرحيل القاسي برغم ما يشعر به من محبة وشوق إلى كل جميل في هذا الوطن: من يُنكرُ أنَّا قد أحْببْنا فيكَ .. مساحاتِ الودِ .. عذاباتِ الشوقِ .. مشاعرنا البكر تحلقُ في أفق القلبِ .. تغردُ عند نخيلكَ .. تهتف باسمكَ كي تمنحنا عمراً وسماءً ..، ودعاءً للربِّ .. وهذه المشاعر المتباينة في قلب الشاعر تمتزج بذكريات الطفولة البريئة، وهي ذكريات تطفو على سطح الوجدان لأنها تميزت بالصدق والإنتماء والعشق، حتي إن الشاعر يعبر عن ذلك بقوله: أقصدُ مدرستي قبل مجئ جميع الأطفالْ . أحمل قلبي فوق ذراعيْ .، وأرنو للعلم .. القلبُ يرفرفُ بين جوانحيَ البكرِ ..، ويهتف باسمكَ تحيا عبرَ الأزمانْ . وها هو يفيق علي واقع مختلف تماما، فلم يعد الوطن هو الوطن، ولم يعد العلم هو العلم، ولم تعد البراءة هي البراءة، فها هو يحاول إيقاظ طفله لكي يلحق بطابور الصباح مثلما كان يفعل وهو صغير، لكن طفله لا يستجيب بحجة إصابته بمرارة الحلق والصداع. تغير كل شئ إذن؛ حتي هو الذي تمثل في طفله، قد تغير. وهنا نلحظ إحساسا محصنا بالغربة. ونلحظ أيضا قلقا دفينا في داخل الشاعر على هذا الوطن الغائب بلا عودة، حتي إن طفله نفسه، حينما يصحو من نومه ويفيق يسأله: يسألني طفلي عن ميراث الأجدادْ . وهل يستطيع الشاعر وقد تمزق قلبه علي تمزق الوطن أن يجيب؟ دعنا نستمع إليه يقول: براءة طفلي توقعني في شرَكٍ وعناءْ .! أحاول أن أخفي عاريْ .. في حرجٍ أزليْ. ينتقي الشاعر ألفاظه بعناية فائقة لكي يعبر عما يريد، وحسبه أن يذكر لفظة (العار) ليدرك المتلقي عمق المعني، بلا تفصيل كثير. وأيضا لفظ (الحرج الأزلي) وكأنه يغلق على ذاته باب التفكير أو الإجابة. وها هو يرصد مرة أخرى ما صار عليه الوطن بعد أن صار في أيدي غيره. وبدلا من أن يصور لنا الدمار المادي، فيقع في الخطابية أو المباشرة، فضل أن يسوق لنا حكاية رمزية تحمل المعني، وتصور المأساة. وهذه الحكاية تجسد الحوار بينه وبين طفله الذي يريد أن يشرب الكولا: قلتُ: هل تعرف أنّا قد قاطعنا الكولا ..، من أجل النصر علي الأعداءْ. فتساءل طفلي: كيف تكون مقاطعتي ..، وأنا أقرأُ .. محفورا فوق زجاجات الكولا .. أسم بلادي! ترى هل وقع الشاعر في تناقض؟ أم أن الواقع هو الذي صار متناقضا غير مستقر؟ ومرة أخرى يسوق لنا حكاية رمزية أخرى، حينما يُجبر هو وصاحبه على ركوب سيارة أجرة في الإسكندرية .. فينبهه صديقه قائلا: وكيف تسيرُ السيارة .. والنفط تحاصرهُ الدباباتُ الأمريكية .. في كركوك ..، وفي الموصل! إنه مصمم على أن يعبر بالشعر والرمز، ومتأكد أن هذا أكثر تأثيرا في الوجدان، وأكثر وخزا في ضمير المتلقي. وبسخرية لاذعة يستمر الشاعر في حكايته. فقد اشتهرت بغداد بمهرجان المربد لسنوات طويلة. وتوقف المهرجان بتدمير الوطن. وها هو الشاعر يتخيل أن حكومة واشنطن قررت نقل المهرجان إلي شيكاغو، وبقي أن يكتب الشعراء قصائد تتناسب مع هذة النقلة الغريبة ويفتي الشاعر الأكبر أن ينفث شعرا بدخان الكنت.. ويستمر في سخريته اللاذعة التي تقوم على: كيف تتلون الحياة بلون أميركا، وكيف يتحول الشعر العربي ليجد له مكانا هناك، و يقترح الشاعر متهكما: هل حانَ الوقت ليظهر في الساحةِ .. تيارٌ شعري فذ .؟ يدعو .. لوجودِ تحالف شعري ضخمْ .. ، بين الشعر العربي الرثْ ..، والشعر الأمريكي الفخم . هذا الأمر .. مطروحٌ لنقاشٍ عام! والسخرية هنا تمثل تفريجا وتطهيرا نفسيا للمعاناة التي يحسها الشاعر، فكل شيء تبدل .. الوطن .. التاريخ .. الأرض .. الوجوه .. الآثار .. الثقافة .. فلماذا لا يتبدل الشعر أيضا. وتلك قمة المأساة. والشاعر في رحلته المعاصرة التي طاف بنا فيها كان حريصا على تصوير مأساة بغداد تصويرا رمزيا .. لكنه مشحون بالأحداث والمعاني بحيث تستطيع أن تؤول أي قصيدة وتفككها لتعرف حجم المأساة والغربة والدمار الذي أصاب بغداد. وكان لا بد للشاعر وقد استكفى من الواقع المعاصر أن يعود إلى التاريخ، لتكتمل لديه الصورة والألوان والمأساة، ويبدأ بالشعر. بانتْ سعادُ .. فقلبي اليومَ متبولُ عفوا سعادُ .. فقلبي اليومَ معلولُ مقابلة تشي بما يحمله في قلبه من الأسي والألم، ويعقد مقارنة واعية بين قاتل الحسين قديما، وقاتل بغداد حديثا، ويؤكد أن الثأر قادم بغداد وتدمير ثقافته لا محالة من القاتلين. ثم يؤكد المعنى نفسه ويصور ما حدث مشابها لهجوم المغول علي بغداد. وهو حينما يقول: قد راعنا المغولُ من قبل التترْ فهو يقصد أن تتر العصر ينتمون إلي مغول الأمس .. ويتوسل بالحسين قائلا: يا سيدي الحسين .. أدرك ثأرنا .. ويصرخ كما كان يصرخ الأقدمون قائلا: فيا لثاراتِ الحسينْ . إن غالهُ التترْ . إنه يستنهض الأمة الغافلة عن ثاراتها، ولكن بإسلوب فني بعيد عن الزعيق والوطنية الزائفة. وهو حينما يطلب ثارات الحسين يتذكر حينما كان في بغداد يقرأ الفاتحة في مقامه مع صديق له .. لكن تلقي منه رسالة أخيرة تقول: أبصرتُ في الرسالة المدادَ والأسيْ .. وصورة قديمة .. وقطرة تسيلْ من دماهْ. وبذكاء شديد يلتقط الشاعر موقفين متشابهين بطلاهما يزيد قديما .. وبوش حديثا. فيزيد قديما: افترش العراقُ بالدمِ الحسيني الشريفْ. وبوش حديثا: اغتصبَ البيعة من صدامْ. وهي لقطة ذكية بالفعل .. ومقارنة صادقة بين يزيد وبوش، وهي قصيدة أبدعها الشاعر بفنية عالية دون صراخ ولا خطابية حيث يقول: يا أهل البصرةْ .. من أين النُصرةْ .؟ يا أهل الكوفة .. كذبتم مرة . وهو نداء تاريخي صاغه صياغة شعرية فائقة .. ثم يقول : هل أدركَ اليزيدُ .. ما جري في ساحة القتال ..، في أزقة العراق تري ما الذي جري؟ فقد أطاحتُ االسيوفُ بالرؤوسِ .. ساعة النزالْ .، وافترش العراق بالدم الحسيني الشريفْ .، وناصر الناسُ الحكومة المؤقتة ..، وفي بيانهِ الأخيرْ .. أعلنَ بوش تهنئة الأكراد بالذكري الجليلة ..، واغتصبَ البيعة من صدامْ .. نلاحظ هنا النقلة السريعة من الماضي إلى الحاضر عندما يقول: وناصر الناسُ الحكومة المؤقتة .. لندرك أن بوش نفسه هو يزيد، وأن القتل الذي ارتُكِبَ في بغداد على يد بوش هو استمرار للقتل الذي ارتكبه يزيد، إن التاريخ لم يتغير، بل يعيد نفسه تماما. تتكامل وتتشابك فصول المأساة. ويتراوح أسلوب الشاعر بين اللجوء الى الله. والتوسل بالحسين إلى وخز العرب والعمل على إفاقتهم أمام هذه القضية الخطيرة .. ضياع الوطن. ويكاد الديوان يشكل وحدة فنية من عناصر الحكي والذكري والتشخيص والإحساس بالغربة.. والبكاء على الطلل العربي المعاصر. وكلها عناصر قدمها الشاعر بحس صادق، وتعبير مكثف، يختار ألفاظه بعناية فائقة، ويرسم صوره بدقة ومهارة، حتى لتحسبه مسيطرا على لغته وتجربته الشعرية بلا افتعال ولا مباشرة. وأرى أن هذا الديوان يمثل في مسيرة الشاعر ناجي عبداللطيف خطوة واثقة إلى الأمام، لأنه ربما صبر عليه حتى اكتمل وألح عليه إلحاح القتل، فأخرجه كما هو مرسوما في وجدانه بلا تزيد أو نقصان. إنه بحق إضافة جديدة إلي مسيرة الشاعر تجاوز به تجاربه السابقة وجعله متطلعا لمرحلة جديدة من الفكر والتجربة والإبداع.