لا نستطيع إنكار دور الأدب في التأثير علي مجري الأحداث، ولو كان تأثيراً ضعيفاً، وغير مباشر، ولكن يظل له تأثيره، علي أي حال، وذلك ما أثبتته تجربة ثورة يناير الرائعة، التي ألهمت شعراءنا بعبقرية فكرها، في هذه الفترة القصيرة، ونظرة سريعة في دواوين الشعراء الشبان، نستطيع أن نري ذلك، ولا ننكره، برغم من إنكار البعض لدورهم الفاعل.. لقد تحدث شعراؤنا وكتَّابنا عن الهيمنة الأمريكية، عن غطرسة إسرائيل، عن استبداد النظم السياسية، من أجل الحفاظ علي بقائها أطول فترة ممكنة، فأعدمت القيم والأخلاق، وقصفت أقلام الحق، واشترت الأقلام المروجة لها، فوجهت تلك الأقلام سن خنجرها لقلب العرب، بدلاً من أن توجهه لأعداء العرب، تحدث شعراؤنا وأدباؤنا عن قضايا الفقر والجوع، عن محاولات الاستعمار الجديد إشعال نار الفتن الطائفية والعرقية، هنا وهناك، عن قمع الكلمة، ونفي صاحبها، إما خلف أسوار السجون، أو في عوالم مغيبات العقل، من مخدرات وجنس. شعراء ينفعلون إنني اعترف حقاً بعدم انفعال الشعراء والأدباء العرب بأحداث مذبحة غزة البشعة التي تمت في أواخر العام الماضي، بل تأخر إنتاجهم كثيراً، وتأخرت القصائد والأغنيات التي تمجد كفاح شعب غزة، وتندد بجلاديهم من جنود إسرائيل، فهذا أمر طبيعي، في ظل انقسام القادة العرب أنفسهم، بين معارض للمقاومة ومؤيد لها، وفي ظل نظم سياسية مستبدة، تستمد قوتها من مغازلة إسرائيل، بل في ظل انقسام الشعب الفلسطيني نفسه، في حين انفعل بعض المبدعين الغرب بتلك الأحداث، وهذا يدل علي شيئين؛ الأول: فداحة ما يتعرض له شعب غزة الأعزل، علي أيدي جنود الاحتلال الإسرائيلي، علي مرأي ومسمع من الأنظمة العربية الفاسدة، والثاني: تراجع واضح للدور العربي، علي المستوي الإبداعي، كما تراجع، بالفعل، علي المستوي السياسي، وهو أمر يثير فينا، نحن العرب، شعوراً بالخزي والعار، فكيف تأثر الغرب بما يدور في غزة العربية، بينما لم يبد العرب. التأثر الملحوظ "كاتيوشا.. كاتيوشا"، هذا عنوان قصيدة ألفها الشاعر الإنجليزي "شون أوبراين"، حيث انفعل بما يراه من مشاهد القتل الوحشي للأطفال والنساء، فنظم هذه القصيدة، وقد نشرت في صحيفة "الجارديان" وقت الضرب الوحشي لشعب غزة، وكاتيوشا اسم قذيفة، وهي، في الوقت نفسه، لفظة تستعمل لمداعبة الأطفال في روسيا، تعكس القصيدة التناقضات التي يشهدها الواقع المعاصر، ويلعب فيها الشاعر علي الثنائيات، وما توحي به من رموز، كجدلية الموت والحياة، وغيرها، وهذا "مايكل هارت"، فنان أمريكي، كتب وغني أغنية بعنوان: "لن نركع"، يسجل، من خلالها، السياسات الأمريكية ضد شعوب العالم، وما أدت إليه من غطرسة إسرائيلية، حيث يساق النساء والأطفال، ويذبحون، بينما نري من يسمون بالقادة، يتناقشون حول ما هو خطأ وما هو صواب، وهناك أغنية أخري، تغني بها فنان أمريكي علي لسان طفل من غزة، حيث راح هذا الطفل يبحث بين الأنقاض عن عائلته، وينشد: "لا مكان لي في هذا الوطن.."، وكلها أغنيات تعبر عن رفض شعوب العالم لما تقوم به إسرائيل من عمليات إبادة للشعب الفلسطيني، ولكن أين انفعال شعرائنا؟ ألم يكن أولي بالشعر العربي، أن يسجل لهم التاريخ موقفاًُ مشرفاً من القضية الفلسطينية العربية؟ تلك القضية التي أظهرت مدي التصدع في الكيان العربي، علي مدي أكثر من ستين عاماً! لقد بدأ الآن فجر جديد علي الشعوب العربية، وبدأنا نري ملامح التغيير تعيد تشكيل الوطن المهزوم، فهل سنري ملامح التغيير في الإبداع العربي؟ صرح قديم جديد إن ما شهدته البلاد العربية من تذمر شعبي بين شباب المواقع الإليكترونية، قبيل اندلاع الثروات، يؤكد وجود الإحساس العربي المشترك بهذا الجرح القديم الجديد، والمتأصل في قلب كل عربي، وما تشهده الميادين والساحات من تظاهرات في جميع بقاع العالم العربي، يؤكد أن الإنسان العربي مازال بخير، وبالتالي، لم يفقد الفنان العربي إحساسه بالأزمة الراهنة، ولكن إنتاجه تأخر، فسبقه الفنان الغربي إلي ذلك، ولم تفقد مصر دورها الرائد في إلهام الشعوب. قديماً كان الفن العربي حاضراً في خدمة القضايا الوطنية والقومية، مسجلاً لها يوماً بيوم، فمنذ بدء الأزمة العربية، نري الشاعر أحمد رامي يهتز طرباً لما فعله جنودنا البواسل في معركة "الفالوجا" ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، وذلك في أربعينيات القرن الماضي، فقدم قصيدته الغراء: "صوت الوطن"، التي راح يعبر فيها عن عظمة مصر وثقلها في المنطقة، حين احتضنت الوطن العربي، ودافعت عنه بأرواح ودماء شعبها، فيقول: "لا تبخلوا بمائها علي ظمي..وأطعموا من خيرها كل فم..يا مصر يا عهد الرخاء..يا موطن الروح الأمين". هذا نزار قباني، الذي راح يعبر عن انطباعات شاعر يعيش بأعصابه فترة ملتهبة من حياة أمته، فجاءت عباراته مليئة بالحدة والمرارة، لأنه شاعر "يكتب في السياسة بلغة الشعر"، كما قال عنه الأديب والمفكر الراحل، نسيم مجلي، في كتابه: "قضايا الإبداع والنقد"، فحوت انطباعاته قدراً كبيراً من عمق التفكير، وصدق البصيرة، وذلك حينما تحدث عن التجزئة الجغرافية والقبلية، التي طالما سعي إليها الاستعمار الغربي، وهي تجزئة من شأنها أن تجعل الأمة العربية شتاتاً ممزقاً، وبخاصة بعد نكسة 1967، حين نشر قصيدته: "هوامش علي دفتر النكسة"، التي انتقد فيها العرب بقسوة، وراح يتابع جهود "كيسنجر"، أمين عام الأممالمتحدة، قبل معركة أكتوبر1973، الذي اجتمع بوزراء الخارجية العرب. قال لهم: "لا تنتظروا من الولاياتالمتحدة معجزة"، فجاء تعليق نزار علي ذلك، في مقال بعنوان: "شوربة الوزير"، أثبت فيه أن الذي لا يطبخ في بيته، يبقي طول عمره جائعاً، "والبيت العربي، لحسن الحظ، فيه كل المواد الرئيسية، من حنطة وسمن ودقيق ولحوم بيضاء وحمراء وحطب وفحم وبترول، ولكن طباخينا ليس لديهم الهمة ولا الطموح، لقلي بيضة، فهم ينامون حتي الظهيرة، وينتظرون شوربة البحص الأمريكية، التي مازالت تغلي علي النار، منذ ست سنوات، ومازالت بحصاً"، وهي كلمات عبرت، بصدق، عن حال الأمة العربية منذ هزيمة 67، وحتي معركة أكتوبر73، كما صور نزار تأثير معركة أكتوبر علي معنويات الإنسان العربي، وعلي نظرة العالم لنا، وذلك في مقالات راح يرد فيها علي الناكرين لفضل مصر، ولتأثير نصر أكتوبر علي العرب، وإذا عدنا سنوات قلائل للوراء، وبالتحديد عام1957 نري تسجيلاً للموقف العربي، من خلال: "قرية ظالمة"، وهي رواية كتبها الدكتور محمد كامل حسين، وقد كان أستاذاً في الفلسفة، اشتهر بمعاركه مع عباس العقاد، علي صفحات مجلة الهلال، وهي دراسة لأزمة الضمير العربي، من الناحية الروحية والتاريخية، وهي أزمة تظهر إقدام المجتمعات علي ارتكاب جرائم القتل، باسم المصلحة الوطنية، أو تحت شعار الدين، وكلها شعارات تتحول إلي أوثان تعبد، وتقدم في محرابها الكثير من الذبائح، ولكي يؤكد المؤلف فكرته، عاد بنا إلي عصور الرومان، حين أجمع بنو إسرائيل أمرهم، أن يطلبوا إلي الرومان صلب المسيح، ليقضوا علي دعوته، وما كانت دعوته إلا أن يحتكم الناس إلي ضمائرهم، في كل ما يفعلون ويفكرون، فلما عزموا أن يصلبوه، لم يكن عزمهم إلا أن يقتلوا الضمير الإنساني. وتقوم رؤية المؤلف علي الحرية الفردية المطلقة، حتي يتسني للضمير الفرد أن يمارس دوره المؤثر. صلاح عبدالصبور هذا الشاعر صلاح عبدالصبور، راح يسجل، من خلال مسرحياته الشعرية الخمس، تلك الأزمة الوطنية القومية، ففي مسرحية "مأساة الحلاج"، راح يعبرعن مأساة المثقف، صاحب الضمير اليقظ، الذي آمن بالكلمة، وبدورها في إنهاض الجماهير، وتنبع مأساته من عجزه عن تحويل الكلمة إلي فعل، في ظروف القهر الشديد الذي تمارسه أجهزة السلطة، وهكذا يصلب، ويدفع حياته ثمناً لدعوته، وفي "ليلي والمجنون"، راح عبدالصبور يصور، مأساة مجنون عصري، أو شاعر عصري من المناضلين، تستغرقه مأساة عجزه عن تحقيق حلمه في الحب والحرية، فيصورها شعراً في رسالة بعنوان: "يوميات نبي مهزوم يحمل قلماً ينتظر نبياً يحمل سيفاً"، وليلي هي الروح الضائع بين الحلم والواقع، وهي المعادل الموضوعي للقاهرة المنتهكة من قبل سلطة جائرة مستبدة، فلا يري أمامه إلا الثورة الشاملة، فيتوجه إلي الشعب المستغرق في نومه، ويقول: "انفجروا..أو موتوا..رعب أكبر من هذا سوف يجيء..لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت، أو ببطون الغابات.."، وهكذا، فتحت "ليلي والمجنون" باباً للأمل في جدار الظلمة القاتمة، وفي "مسافر ليل"، نطالع كوميديا سوداء، تضحكنا ضحكاً مريراً، أشبه بالبكاء، لتفتح قلوبنا وعقولنا علي مأساة، وهي إننا لم نتقدم في مجال الأخلاق كثيراً، فنحن في عالم "خلا من الوسامة"، "من أحلام الفارس القديم". قد كانت هذه المسرحية من نتاج هزيمة 1967 المريرة، ثم جاءت "الأميرة تنتظر"، فقد ظلت الأميرة تحلم بالحب والنماء، خمسة عشر عاماً، وهي تنتظر الفارس المنقذ، وجاء الفارس في مسرحية: "بعد أن يموت الملك"، ليغني بالمزمار الذي يصرع به الجلاد، وينقذ الأميرة من الكذب والوهم والانتظار، ويخلص حاشية الملك من الخوف، وتطرح المسرحية سؤال الساعة: "ماذا بعد أن يموت الملك؟". وفي إطلالة أخيرة علي عالم الشاعر العراقي: عِذاب الركابي، وهو أحد الطيور المهاجرة، ويعيش حالة من الغربة السوداء، تكشف أشعاره عن حالة عجز وإحباط، يعانيها الشاعر العربي في كل مكان:" فلِم لا تمنحني فرحة عشقي؟" والعشق هو ممارسة الحرية، ثم يخاطب بلاده البعيدة: "أراك جميلة أجاورك..أحيا لك.. أصنع من ضحكاتك نهراً وخبزاً.."، ويتساءل الركابي: لماذا لم يتحرك العرب في الوقت المناسب؟ وذلك حين تعرض لبنان للاجتياح الإسرائيلي، في ثمانينات القرن الماضي، ثم يجيب عن سؤاله: "لأن العرب مازالوا بعيدين عن المعركة الحقة، التي تخلصهم من نزعات الأنانية القبلية"، ويقول: "رجل هو الوطن العربي..تحتل دواخله امرأة..لا تفهم من هذا العالم شيئاً غير النوم..امرأة تأكل وتحارب في النوم"، ثم يعبر الشاعر عن رغبته في أن نتخلص من سلبيات التخلف وميراث الجهل، "ينتظر نهاراً"، فهل آن الأوان؟ أم سيطول انتظاره؟