5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ناجي عبد اللطيف شاعر مصري يقف على الطللِ العربي
نشر في صوت البلد يوم 26 - 04 - 2017

هل يمكننا أن نقررَ في البداية أن الشعرَ هو فنُ الحيرةِ والغربةِ، كما هو فنُ الجمالِ والمتعة. وهذان القوسان اللذان يحيطان بهذا الفن قد يكثفان العالم ويجعلانه في قبضة اليد، أو يوزعانه هنا وهناك فيتشتت شظايا، ويصعب الحصول عليه.
والشاعر هنا قد يمسك بمفاتيح الوجود، لكنه يخشي الإقتراب الكامل من أبوابه، ويظل أحيانا مراقبا .. أو مغتربا .. أو حائرا .. أو مترددا .. وإذا حاول الإقتحام تجمعت عليه أشباح وآلام فيخرج من هذه المعركة مثخنا بالجراح.
لكن الشاعر الحق لا يستسلم لمجرد الهزيمة في معركة؛ وإنما هو سرعان ما يتسلح بكلماته المسنونة التي يوجهها مصقولة مشحوذة إلي كل قبيح، فيزيل عنه ملامح القبح، ويصعد به إلى نافورة الجمال، ويعيد تشكيل هذه الملامح بما يضيف للوجدان ما فقده من الإحساس والمتعة.
ربما كانت تلك رحلة الشاعر مع الإبداع .. أخذ وَردْ .. قربٌ وبعدْ .. وصولٌ وغيابْ ..
إستقرارٌ وغربة. وهذه العناصر هي التي تضمن للشاعر الإستمرار والإضافة .. فهي دراما متجددة بين الماضي والحاضر والآتي.
واليوم نحن مع ديوان جديد لشاعر أخذ عدته الإبداعية وهبط في طلل بغداد، تلك المدينة الساحرة التي سجلت تاريخ العرب والمسلمين بأجمل حروف وسطور.
إنه ديوان "وقوف جديد علي الطلل العربي" للشاعر ناجي عبداللطيف. ومن الوهلة الأولى، يدرك القارئ أن الشاعر هنا لا يحاكي وقوف القدماء علي الأطلال، لا بالبكاء ولا بالذكريات، لكنه إلى جانب ذلك يضيف رؤية عصرية، لأن أطلال بغداد أطلال عصرية أيضا، فلا يجوز أن يقف أمامها وقفة قديمة.
ويتوسل الشاعر بالعناصر التي تسانده في رؤيته الجديدة، يتوسل بالبياتي وهو يبكي علي الحسين، وبالسياب وهو يذكر عيني حبيبته اللتين تشبهان غابة نخيل بساحة السحر، ويتوسل بفيروز وهي تغني لبردي وهو مشغول بمصير صديقه الفرات، ويتوسل بقيس .. ويزيد.. والحسين .. وصدام .. وغيرهم من الشخصيات التي تكتمل بهم أطلال بغداد .. ويبدأ الشاعر ليصدّر لنا إحساسه بالغربة حيث يقول:
كان لنا وطنٌ ..،
وسحابة عشق أبديهْ .
لكن .. آثر أن يرحل عنا ..
في رحلة تيه أبديه .!
تلك هي بداية القصة، أما تفاصيلها فقد آثر الشاعر أن يحكيها عبر خمسة وثلاثين موقفا.
إنه يبدأ رحلة الغربة فوق قارب في بحر لجي. وقد توحدت غربة الشاعر بغربة الوطن، لكن الشاعر هنا يعز عليه هذا الرحيل القاسي برغم ما يشعر به من محبة وشوق إلى كل جميل في هذا الوطن:
من يُنكرُ أنَّا قد أحْببْنا فيكَ ..
مساحاتِ الودِ ..
عذاباتِ الشوقِ ..
مشاعرنا البكر تحلقُ في أفق القلبِ ..
تغردُ عند نخيلكَ ..
تهتف باسمكَ كي تمنحنا عمراً وسماءً ..،
ودعاءً للربِّ ..
وهذه المشاعر المتباينة في قلب الشاعر تمتزج بذكريات الطفولة البريئة، وهي ذكريات تطفو على سطح الوجدان لأنها تميزت بالصدق والإنتماء والعشق، حتي إن الشاعر يعبر عن ذلك بقوله:
أقصدُ مدرستي قبل مجئ جميع الأطفالْ .
أحمل قلبي فوق ذراعيْ .،
وأرنو للعلم ..
القلبُ يرفرفُ بين جوانحيَ البكرِ ..،
ويهتف باسمكَ تحيا عبرَ الأزمانْ .
وها هو يفيق علي واقع مختلف تماما، فلم يعد الوطن هو الوطن، ولم يعد العلم هو العلم، ولم تعد البراءة هي البراءة، فها هو يحاول إيقاظ طفله لكي يلحق بطابور الصباح مثلما كان يفعل وهو صغير، لكن طفله لا يستجيب بحجة إصابته بمرارة الحلق والصداع.
تغير كل شئ إذن؛ حتي هو الذي تمثل في طفله، قد تغير. وهنا نلحظ إحساسا محصنا بالغربة. ونلحظ أيضا قلقا دفينا في داخل الشاعر على هذا الوطن الغائب بلا عودة، حتي إن طفله نفسه، حينما يصحو من نومه ويفيق يسأله:
يسألني طفلي عن ميراث الأجدادْ .
وهل يستطيع الشاعر وقد تمزق قلبه علي تمزق الوطن أن يجيب؟ دعنا نستمع إليه يقول:
براءة طفلي توقعني في شرَكٍ وعناءْ .!
أحاول أن أخفي عاريْ ..
في حرجٍ أزليْ.
ينتقي الشاعر ألفاظه بعناية فائقة لكي يعبر عما يريد، وحسبه أن يذكر لفظة (العار) ليدرك المتلقي عمق المعني، بلا تفصيل كثير. وأيضا لفظ (الحرج الأزلي) وكأنه يغلق على ذاته باب التفكير أو الإجابة.
وها هو يرصد مرة أخرى ما صار عليه الوطن بعد أن صار في أيدي غيره. وبدلا من أن يصور لنا الدمار المادي، فيقع في الخطابية أو المباشرة، فضل أن يسوق لنا حكاية رمزية تحمل المعني، وتصور المأساة. وهذه الحكاية تجسد الحوار بينه وبين طفله الذي يريد أن يشرب الكولا:
قلتُ: هل تعرف أنّا قد قاطعنا الكولا ..،
من أجل النصر علي الأعداءْ.
فتساءل طفلي:
كيف تكون مقاطعتي ..،
وأنا أقرأُ ..
محفورا فوق زجاجات الكولا ..
أسم بلادي!
ترى هل وقع الشاعر في تناقض؟ أم أن الواقع هو الذي صار متناقضا غير مستقر؟
ومرة أخرى يسوق لنا حكاية رمزية أخرى، حينما يُجبر هو وصاحبه على ركوب سيارة أجرة في الإسكندرية .. فينبهه صديقه قائلا:
وكيف تسيرُ السيارة ..
والنفط تحاصرهُ الدباباتُ الأمريكية ..
في كركوك ..، وفي الموصل!
إنه مصمم على أن يعبر بالشعر والرمز، ومتأكد أن هذا أكثر تأثيرا في الوجدان، وأكثر وخزا في ضمير المتلقي. وبسخرية لاذعة يستمر الشاعر في حكايته. فقد اشتهرت بغداد بمهرجان المربد لسنوات طويلة. وتوقف المهرجان بتدمير الوطن.
وها هو الشاعر يتخيل أن حكومة واشنطن قررت نقل المهرجان إلي شيكاغو، وبقي أن يكتب الشعراء قصائد تتناسب مع هذة النقلة الغريبة ويفتي الشاعر الأكبر أن ينفث شعرا بدخان الكنت.. ويستمر في سخريته اللاذعة التي تقوم على: كيف تتلون الحياة بلون أميركا، وكيف يتحول الشعر العربي ليجد له مكانا هناك، و يقترح الشاعر متهكما:
هل حانَ الوقت ليظهر في الساحةِ ..
تيارٌ شعري فذ .؟
يدعو .. لوجودِ تحالف شعري ضخمْ .. ،
بين الشعر العربي الرثْ ..،
والشعر الأمريكي الفخم .
هذا الأمر .. مطروحٌ لنقاشٍ عام!
والسخرية هنا تمثل تفريجا وتطهيرا نفسيا للمعاناة التي يحسها الشاعر، فكل شيء تبدل .. الوطن .. التاريخ .. الأرض .. الوجوه .. الآثار .. الثقافة .. فلماذا لا يتبدل الشعر أيضا. وتلك قمة المأساة.
والشاعر في رحلته المعاصرة التي طاف بنا فيها كان حريصا على تصوير مأساة بغداد تصويرا رمزيا .. لكنه مشحون بالأحداث والمعاني بحيث تستطيع أن تؤول أي قصيدة وتفككها لتعرف حجم المأساة والغربة والدمار الذي أصاب بغداد.
وكان لا بد للشاعر وقد استكفى من الواقع المعاصر أن يعود إلى التاريخ، لتكتمل لديه الصورة والألوان والمأساة، ويبدأ بالشعر.
بانتْ سعادُ .. فقلبي اليومَ متبولُ
عفوا سعادُ .. فقلبي اليومَ معلولُ
مقابلة تشي بما يحمله في قلبه من الأسي والألم، ويعقد مقارنة واعية بين قاتل الحسين قديما، وقاتل بغداد حديثا، ويؤكد أن الثأر قادم بغداد وتدمير ثقافته لا محالة من القاتلين. ثم يؤكد المعنى نفسه ويصور ما حدث مشابها لهجوم المغول علي بغداد. وهو حينما يقول:
قد راعنا المغولُ من قبل التترْ
فهو يقصد أن تتر العصر ينتمون إلي مغول الأمس .. ويتوسل بالحسين قائلا:
يا سيدي الحسين ..
أدرك ثأرنا ..
ويصرخ كما كان يصرخ الأقدمون قائلا:
فيا لثاراتِ الحسينْ .
إن غالهُ التترْ .
إنه يستنهض الأمة الغافلة عن ثاراتها، ولكن بإسلوب فني بعيد عن الزعيق والوطنية الزائفة. وهو حينما يطلب ثارات الحسين يتذكر حينما كان في بغداد يقرأ الفاتحة في مقامه مع صديق له .. لكن تلقي منه رسالة أخيرة تقول:
أبصرتُ في الرسالة المدادَ والأسيْ ..
وصورة قديمة ..
وقطرة تسيلْ من دماهْ.
وبذكاء شديد يلتقط الشاعر موقفين متشابهين بطلاهما يزيد قديما .. وبوش حديثا.
فيزيد قديما:
افترش العراقُ بالدمِ الحسيني الشريفْ.
وبوش حديثا:
اغتصبَ البيعة من صدامْ.
وهي لقطة ذكية بالفعل .. ومقارنة صادقة بين يزيد وبوش، وهي قصيدة أبدعها الشاعر بفنية عالية دون صراخ ولا خطابية حيث يقول:
يا أهل البصرةْ .. من أين النُصرةْ .؟
يا أهل الكوفة .. كذبتم مرة .
وهو نداء تاريخي صاغه صياغة شعرية فائقة .. ثم يقول :
هل أدركَ اليزيدُ ..
ما جري في ساحة القتال ..،
في أزقة العراق
تري ما الذي جري؟
فقد أطاحتُ االسيوفُ بالرؤوسِ ..
ساعة النزالْ .،
وافترش العراق بالدم الحسيني الشريفْ .،
وناصر الناسُ الحكومة المؤقتة ..،
وفي بيانهِ الأخيرْ ..
أعلنَ بوش تهنئة الأكراد بالذكري الجليلة ..،
واغتصبَ البيعة من صدامْ ..
نلاحظ هنا النقلة السريعة من الماضي إلى الحاضر عندما يقول:
وناصر الناسُ الحكومة المؤقتة ..
لندرك أن بوش نفسه هو يزيد، وأن القتل الذي ارتُكِبَ في بغداد على يد بوش هو استمرار للقتل الذي ارتكبه يزيد، إن التاريخ لم يتغير، بل يعيد نفسه تماما.
تتكامل وتتشابك فصول المأساة. ويتراوح أسلوب الشاعر بين اللجوء الى الله. والتوسل بالحسين إلى وخز العرب والعمل على إفاقتهم أمام هذه القضية الخطيرة .. ضياع الوطن.
ويكاد الديوان يشكل وحدة فنية من عناصر الحكي والذكري والتشخيص والإحساس بالغربة.. والبكاء على الطلل العربي المعاصر. وكلها عناصر قدمها الشاعر بحس صادق، وتعبير مكثف، يختار ألفاظه بعناية فائقة، ويرسم صوره بدقة ومهارة، حتى لتحسبه مسيطرا على لغته وتجربته الشعرية بلا افتعال ولا مباشرة.
وأرى أن هذا الديوان يمثل في مسيرة الشاعر ناجي عبداللطيف خطوة واثقة إلى الأمام، لأنه ربما صبر عليه حتى اكتمل وألح عليه إلحاح القتل، فأخرجه كما هو مرسوما في وجدانه بلا تزيد أو نقصان.
إنه بحق إضافة جديدة إلي مسيرة الشاعر تجاوز به تجاربه السابقة وجعله متطلعا لمرحلة جديدة من الفكر والتجربة والإبداع.
هل يمكننا أن نقررَ في البداية أن الشعرَ هو فنُ الحيرةِ والغربةِ، كما هو فنُ الجمالِ والمتعة. وهذان القوسان اللذان يحيطان بهذا الفن قد يكثفان العالم ويجعلانه في قبضة اليد، أو يوزعانه هنا وهناك فيتشتت شظايا، ويصعب الحصول عليه.
والشاعر هنا قد يمسك بمفاتيح الوجود، لكنه يخشي الإقتراب الكامل من أبوابه، ويظل أحيانا مراقبا .. أو مغتربا .. أو حائرا .. أو مترددا .. وإذا حاول الإقتحام تجمعت عليه أشباح وآلام فيخرج من هذه المعركة مثخنا بالجراح.
لكن الشاعر الحق لا يستسلم لمجرد الهزيمة في معركة؛ وإنما هو سرعان ما يتسلح بكلماته المسنونة التي يوجهها مصقولة مشحوذة إلي كل قبيح، فيزيل عنه ملامح القبح، ويصعد به إلى نافورة الجمال، ويعيد تشكيل هذه الملامح بما يضيف للوجدان ما فقده من الإحساس والمتعة.
ربما كانت تلك رحلة الشاعر مع الإبداع .. أخذ وَردْ .. قربٌ وبعدْ .. وصولٌ وغيابْ ..
إستقرارٌ وغربة. وهذه العناصر هي التي تضمن للشاعر الإستمرار والإضافة .. فهي دراما متجددة بين الماضي والحاضر والآتي.
واليوم نحن مع ديوان جديد لشاعر أخذ عدته الإبداعية وهبط في طلل بغداد، تلك المدينة الساحرة التي سجلت تاريخ العرب والمسلمين بأجمل حروف وسطور.
إنه ديوان "وقوف جديد علي الطلل العربي" للشاعر ناجي عبداللطيف. ومن الوهلة الأولى، يدرك القارئ أن الشاعر هنا لا يحاكي وقوف القدماء علي الأطلال، لا بالبكاء ولا بالذكريات، لكنه إلى جانب ذلك يضيف رؤية عصرية، لأن أطلال بغداد أطلال عصرية أيضا، فلا يجوز أن يقف أمامها وقفة قديمة.
ويتوسل الشاعر بالعناصر التي تسانده في رؤيته الجديدة، يتوسل بالبياتي وهو يبكي علي الحسين، وبالسياب وهو يذكر عيني حبيبته اللتين تشبهان غابة نخيل بساحة السحر، ويتوسل بفيروز وهي تغني لبردي وهو مشغول بمصير صديقه الفرات، ويتوسل بقيس .. ويزيد.. والحسين .. وصدام .. وغيرهم من الشخصيات التي تكتمل بهم أطلال بغداد .. ويبدأ الشاعر ليصدّر لنا إحساسه بالغربة حيث يقول:
كان لنا وطنٌ ..،
وسحابة عشق أبديهْ .
لكن .. آثر أن يرحل عنا ..
في رحلة تيه أبديه .!
تلك هي بداية القصة، أما تفاصيلها فقد آثر الشاعر أن يحكيها عبر خمسة وثلاثين موقفا.
إنه يبدأ رحلة الغربة فوق قارب في بحر لجي. وقد توحدت غربة الشاعر بغربة الوطن، لكن الشاعر هنا يعز عليه هذا الرحيل القاسي برغم ما يشعر به من محبة وشوق إلى كل جميل في هذا الوطن:
من يُنكرُ أنَّا قد أحْببْنا فيكَ ..
مساحاتِ الودِ ..
عذاباتِ الشوقِ ..
مشاعرنا البكر تحلقُ في أفق القلبِ ..
تغردُ عند نخيلكَ ..
تهتف باسمكَ كي تمنحنا عمراً وسماءً ..،
ودعاءً للربِّ ..
وهذه المشاعر المتباينة في قلب الشاعر تمتزج بذكريات الطفولة البريئة، وهي ذكريات تطفو على سطح الوجدان لأنها تميزت بالصدق والإنتماء والعشق، حتي إن الشاعر يعبر عن ذلك بقوله:
أقصدُ مدرستي قبل مجئ جميع الأطفالْ .
أحمل قلبي فوق ذراعيْ .،
وأرنو للعلم ..
القلبُ يرفرفُ بين جوانحيَ البكرِ ..،
ويهتف باسمكَ تحيا عبرَ الأزمانْ .
وها هو يفيق علي واقع مختلف تماما، فلم يعد الوطن هو الوطن، ولم يعد العلم هو العلم، ولم تعد البراءة هي البراءة، فها هو يحاول إيقاظ طفله لكي يلحق بطابور الصباح مثلما كان يفعل وهو صغير، لكن طفله لا يستجيب بحجة إصابته بمرارة الحلق والصداع.
تغير كل شئ إذن؛ حتي هو الذي تمثل في طفله، قد تغير. وهنا نلحظ إحساسا محصنا بالغربة. ونلحظ أيضا قلقا دفينا في داخل الشاعر على هذا الوطن الغائب بلا عودة، حتي إن طفله نفسه، حينما يصحو من نومه ويفيق يسأله:
يسألني طفلي عن ميراث الأجدادْ .
وهل يستطيع الشاعر وقد تمزق قلبه علي تمزق الوطن أن يجيب؟ دعنا نستمع إليه يقول:
براءة طفلي توقعني في شرَكٍ وعناءْ .!
أحاول أن أخفي عاريْ ..
في حرجٍ أزليْ.
ينتقي الشاعر ألفاظه بعناية فائقة لكي يعبر عما يريد، وحسبه أن يذكر لفظة (العار) ليدرك المتلقي عمق المعني، بلا تفصيل كثير. وأيضا لفظ (الحرج الأزلي) وكأنه يغلق على ذاته باب التفكير أو الإجابة.
وها هو يرصد مرة أخرى ما صار عليه الوطن بعد أن صار في أيدي غيره. وبدلا من أن يصور لنا الدمار المادي، فيقع في الخطابية أو المباشرة، فضل أن يسوق لنا حكاية رمزية تحمل المعني، وتصور المأساة. وهذه الحكاية تجسد الحوار بينه وبين طفله الذي يريد أن يشرب الكولا:
قلتُ: هل تعرف أنّا قد قاطعنا الكولا ..،
من أجل النصر علي الأعداءْ.
فتساءل طفلي:
كيف تكون مقاطعتي ..،
وأنا أقرأُ ..
محفورا فوق زجاجات الكولا ..
أسم بلادي!
ترى هل وقع الشاعر في تناقض؟ أم أن الواقع هو الذي صار متناقضا غير مستقر؟
ومرة أخرى يسوق لنا حكاية رمزية أخرى، حينما يُجبر هو وصاحبه على ركوب سيارة أجرة في الإسكندرية .. فينبهه صديقه قائلا:
وكيف تسيرُ السيارة ..
والنفط تحاصرهُ الدباباتُ الأمريكية ..
في كركوك ..، وفي الموصل!
إنه مصمم على أن يعبر بالشعر والرمز، ومتأكد أن هذا أكثر تأثيرا في الوجدان، وأكثر وخزا في ضمير المتلقي. وبسخرية لاذعة يستمر الشاعر في حكايته. فقد اشتهرت بغداد بمهرجان المربد لسنوات طويلة. وتوقف المهرجان بتدمير الوطن.
وها هو الشاعر يتخيل أن حكومة واشنطن قررت نقل المهرجان إلي شيكاغو، وبقي أن يكتب الشعراء قصائد تتناسب مع هذة النقلة الغريبة ويفتي الشاعر الأكبر أن ينفث شعرا بدخان الكنت.. ويستمر في سخريته اللاذعة التي تقوم على: كيف تتلون الحياة بلون أميركا، وكيف يتحول الشعر العربي ليجد له مكانا هناك، و يقترح الشاعر متهكما:
هل حانَ الوقت ليظهر في الساحةِ ..
تيارٌ شعري فذ .؟
يدعو .. لوجودِ تحالف شعري ضخمْ .. ،
بين الشعر العربي الرثْ ..،
والشعر الأمريكي الفخم .
هذا الأمر .. مطروحٌ لنقاشٍ عام!
والسخرية هنا تمثل تفريجا وتطهيرا نفسيا للمعاناة التي يحسها الشاعر، فكل شيء تبدل .. الوطن .. التاريخ .. الأرض .. الوجوه .. الآثار .. الثقافة .. فلماذا لا يتبدل الشعر أيضا. وتلك قمة المأساة.
والشاعر في رحلته المعاصرة التي طاف بنا فيها كان حريصا على تصوير مأساة بغداد تصويرا رمزيا .. لكنه مشحون بالأحداث والمعاني بحيث تستطيع أن تؤول أي قصيدة وتفككها لتعرف حجم المأساة والغربة والدمار الذي أصاب بغداد.
وكان لا بد للشاعر وقد استكفى من الواقع المعاصر أن يعود إلى التاريخ، لتكتمل لديه الصورة والألوان والمأساة، ويبدأ بالشعر.
بانتْ سعادُ .. فقلبي اليومَ متبولُ
عفوا سعادُ .. فقلبي اليومَ معلولُ
مقابلة تشي بما يحمله في قلبه من الأسي والألم، ويعقد مقارنة واعية بين قاتل الحسين قديما، وقاتل بغداد حديثا، ويؤكد أن الثأر قادم بغداد وتدمير ثقافته لا محالة من القاتلين. ثم يؤكد المعنى نفسه ويصور ما حدث مشابها لهجوم المغول علي بغداد. وهو حينما يقول:
قد راعنا المغولُ من قبل التترْ
فهو يقصد أن تتر العصر ينتمون إلي مغول الأمس .. ويتوسل بالحسين قائلا:
يا سيدي الحسين ..
أدرك ثأرنا ..
ويصرخ كما كان يصرخ الأقدمون قائلا:
فيا لثاراتِ الحسينْ .
إن غالهُ التترْ .
إنه يستنهض الأمة الغافلة عن ثاراتها، ولكن بإسلوب فني بعيد عن الزعيق والوطنية الزائفة. وهو حينما يطلب ثارات الحسين يتذكر حينما كان في بغداد يقرأ الفاتحة في مقامه مع صديق له .. لكن تلقي منه رسالة أخيرة تقول:
أبصرتُ في الرسالة المدادَ والأسيْ ..
وصورة قديمة ..
وقطرة تسيلْ من دماهْ.
وبذكاء شديد يلتقط الشاعر موقفين متشابهين بطلاهما يزيد قديما .. وبوش حديثا.
فيزيد قديما:
افترش العراقُ بالدمِ الحسيني الشريفْ.
وبوش حديثا:
اغتصبَ البيعة من صدامْ.
وهي لقطة ذكية بالفعل .. ومقارنة صادقة بين يزيد وبوش، وهي قصيدة أبدعها الشاعر بفنية عالية دون صراخ ولا خطابية حيث يقول:
يا أهل البصرةْ .. من أين النُصرةْ .؟
يا أهل الكوفة .. كذبتم مرة .
وهو نداء تاريخي صاغه صياغة شعرية فائقة .. ثم يقول :
هل أدركَ اليزيدُ ..
ما جري في ساحة القتال ..،
في أزقة العراق
تري ما الذي جري؟
فقد أطاحتُ االسيوفُ بالرؤوسِ ..
ساعة النزالْ .،
وافترش العراق بالدم الحسيني الشريفْ .،
وناصر الناسُ الحكومة المؤقتة ..،
وفي بيانهِ الأخيرْ ..
أعلنَ بوش تهنئة الأكراد بالذكري الجليلة ..،
واغتصبَ البيعة من صدامْ ..
نلاحظ هنا النقلة السريعة من الماضي إلى الحاضر عندما يقول:
وناصر الناسُ الحكومة المؤقتة ..
لندرك أن بوش نفسه هو يزيد، وأن القتل الذي ارتُكِبَ في بغداد على يد بوش هو استمرار للقتل الذي ارتكبه يزيد، إن التاريخ لم يتغير، بل يعيد نفسه تماما.
تتكامل وتتشابك فصول المأساة. ويتراوح أسلوب الشاعر بين اللجوء الى الله. والتوسل بالحسين إلى وخز العرب والعمل على إفاقتهم أمام هذه القضية الخطيرة .. ضياع الوطن.
ويكاد الديوان يشكل وحدة فنية من عناصر الحكي والذكري والتشخيص والإحساس بالغربة.. والبكاء على الطلل العربي المعاصر. وكلها عناصر قدمها الشاعر بحس صادق، وتعبير مكثف، يختار ألفاظه بعناية فائقة، ويرسم صوره بدقة ومهارة، حتى لتحسبه مسيطرا على لغته وتجربته الشعرية بلا افتعال ولا مباشرة.
وأرى أن هذا الديوان يمثل في مسيرة الشاعر ناجي عبداللطيف خطوة واثقة إلى الأمام، لأنه ربما صبر عليه حتى اكتمل وألح عليه إلحاح القتل، فأخرجه كما هو مرسوما في وجدانه بلا تزيد أو نقصان.
إنه بحق إضافة جديدة إلي مسيرة الشاعر تجاوز به تجاربه السابقة وجعله متطلعا لمرحلة جديدة من الفكر والتجربة والإبداع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.