كيف يمكن المرء أن يجد سبيلاً لرثاء من يحبهم بغير الصمت أو الحشرجات. كيف له أن ينشغل بتأليف الكلام وتجميله بينما الهواء الذي من حوله لا يكاد يكفي لالتقاط الأنفاس ومنع الروح من الاختناق. صحيح أن هجرة الشعراء نحو الموت، وفق تعديل طفيف لتعبير الطيب صالح، لا تزال ترفد مواسمها بعشرات الذين انتقلوا تباعاً إلى الضفة الأخرى من النهر، لكن وتيرتها في السنوات الأخيرة قد أخذت في التسارع بما يكفي لتحويل أكفنا، نحن المتبقين، إلى تلويحة وداع، ونصوصنا إلى صحارى آهلة بالمراثي. والحياة التي بدت لنا أبدية في مطالع الصبا تتقدم شيئاً فشيئاً إلى مربعها الأخير، حتى إذا سقط معظم من سبقنا من الشعراء ورحل بعض مجايلينا قبل أوانهم، باتت خطوط دفاعنا مكشوفة تماماً، وبات كل رثاء للآخر هو رثاء للنفس في صقيعها الموحش. برحيل أحمد دحبور تفقد فلسطين أحد أكثر شعرائها اتصالاً بالموهبة ولهب الإبداع والجيشان الداخلي ذي الطبيعة الغنائية. لكن الحديث عن شعره لا بد أن يسبقه وهو يرحل عن هذا العالم حديث موازٍ عن الإنسان الذي فيه. إذ قل أن احتفظ شاعر من الشعراء بهذا القدر من اللطف ونقاء السريرة اللذين امتلكهما صاحب «طائر الوحدات» وحافظ عليهما على امتداد حياته. كان في داخله مزيج نادر من العذوبة والخفر، بما حمى الطفل الذي فيه من الأذى ووفر للغته ما تحتاجه من قوة البداهة وصفاء الينابيع. كان يمكن أن تخدشه هبّة زائدة من النسيم، فيما لم يكن هو من ناحيته ليخدش أحداً من الناس، ودوداً كان أم صاحب ضغينة، صديقاً أو عابر سبيل. حتى في الإشارة إلى أعدائه ومغتصبي أرضه تبدو كتاباته أقرب إلى التبرم والعتاب والاحتجاج على الظلم منها إلى التهديد والوعيد والعنف الدموي. وأنى حل كان يكتسب المزيد من الأصدقاء ولا يفرط بأحد منهم، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً. والصداقة التي ربطتني به، وبخاصة أثناء إقامته في بيروت، كانت واحدة من أوثق الصداقات وأكثرها رسوخاً مع الزمن، تماماً كما كان حاله مع العشرات من الشعراء والمثقفين، ومع البشر العاديين الذين ظل ينتمي طيلة حياته إلى طيبتهم وبساطة عيشهم وفقرهم النبيل. وحين التقيت به للمرة الأولى أثناء إحيائه لأمسية شعرية في الجامعة اللبنانية لفتني فيه ذلك الاتصال الوثيق بين لغته وقلبه وتلك النبرة من الصدق التي تعصم الشعر من التأليف وتحوله إلى نوع من الفيض والجريان التلقائي للعبارات والصور ذات الطبيعة المشهدية. وحين أخبرني أنه يقيم في أحد مخيمات حمص السورية، لم أستطع المواءمة بين عصب كتابته المشدود وبين ما ظننت أنه الرتابة الموحشة لمدن الأطراف. وما لبث استغرابي أن انتقل إلى المكان النقيض حين وقعت لاحقاً في حب المدينة التي لم تتسبب رياحها الدائمة في انحناء الشجر وحده، بل وفرت لشعرائها الكثر، منذ ديك الجن وحتى اليوم، ملاعب للكتابة يرفدها «العاصي» بكل ما تحتاجه من ليونة أو ضراوة. لم يلهث أحمد دحبور يوماً وراء النجومية والهوس الاحتفالي بالذات، ولا بتلميع صورته في وسائل الإعلام، على رغم وقوفه في الطليعة بين الشعراء الفلسطينيين والعرب، وهو الذي رأى فيه محمود درويش ذات يوم مستقبل الشعر الفلسطيني وعلامته الفارقة. وإذا كان للمرء أن يستغرب بشيء من التوجس إصدار الشاعر لأعماله الكاملة، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين، عبر السلسلة الحمراء الشهيرة التي تولت دار العودة إصدارها للكبار من شعراء الحداثة العرب، فإن هذا الاستغراب لا بد إلا أن تخف وطأته حين يلاحظ القارئ أن صاحب «كسور عشرية» بدأ منذ السادسة عشرة بنشر قصائده في كبريات المجلات والصحف العربية، وأنه أصدر مجموعته الأولى «الضواري وعيون الأطفال» وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره، في حين أن القصائد التي تضمها المجموعة قد كتبت قبل ذلك بردح من الزمن. إلا أن قيمة تلك المجموعة لا تتمثل في حجم الكشوف التعبيرية والرؤيوية التي اجترحتها، بل في ما تكشف عنه من قوة الفطرة عصف اللغة وسلامة الإيقاع عند دحبور، الذي لم يتردد، وخلافاً للكثيرين، في الاعتراف بأنه كان في تلك الفترة واقعاً تحت سطوة خليل حاوي وإيقاعاته المتماثلة وأسئلته الحضارية وقلقه الميتافيزيقي. لكن تجربة أحمد دحبور لم تتلقف مياهها من مصدر واحد، بل من مصادر كثيرة متصل بعضها بالطفولة وحكايا الأم والسير الشعبية، ومتصل بعضها الآخر بالتراث الشعري العربي منذ عصوره القديمة، فيما ستظهر في مجموعته الثانية «حكاية الولد الفلسطيني» ترددات مختلفة من أصوات الرواد، قبل أن ينجح الشاعر في هضم قراءاته ومصادره المعرفية المختلفة وامتلاك أسلوبه المميز الذي يؤالف بين الالتحام بقضايا شعبه ومكابداته وتضحياته من أجل الحرية، وبين المغامرة الجمالية والأسلوبية التي يمنعها الصدق والتلقائية من التعسف والشطط التأليفي. مدركاً حراجة المأزق الذي يواجهه الشعراء في ظروف صعبة كهذه، يركز الشاعر في مقدمته لأعماله على العلاقة الملتبسة بين الوظيفي والجمالي في شعر «الالتزام» الوطني والثوري فيقول: «إذا أراد الشاعر أن يكون وطنياً أو ثورياً، وهذا حقه، فليصفّ هذا الأمر مع نفسه، وستأتي قصيدته ساعتئذ بما يرضيه. أما إذا أمر القصيدة أن تكون ثورية، فسوف تتحدث قصيدته عن الثورة من دون أن تدخلها». عرف أحمد دحبور كيف يضرم النار تحت الموضوعات التي تحولت عند غيره إلى رماد، واضعاً قلبه وأعصابه ومعرفته الوثيقة باللغة ونزوعه الغنائي الحميم في خدمة نصوصه التي تجعل القارئ منقسماً بين مكامن الوجد وحرقة الأسئلة الممضة «ويا جَمل المَحامل دربنا رملٌ وأنت المبحر العدّاءْ/ تهجيناك في كتب القراءة في طفولتنا/ فكنت سفينة الصحراءْ/ ويوم على شفير اليأس كنا، جئت تصطكُّ/ فيا جمل المحامل سرْ بنا/ وبإذن حب الأرض لن نشكو/ سيسقط بعضنا والشوك محتشدٌ/ سيُحرق بعضنا والشمس حاميةٌ/ ولكنا... متى حان الوصول وعرّشت حيفا على الأجفانْ/ سنحضر جوعنا الدهري للدمع الحبيس ونفْلت الأحزان». وحتى في القصائد ذات النبرة العالية أوتلك التي حاكت النموذج المعمم الذي «فرضته» الواقعية الاشتراكية على الشعر في حقبة من الحقب كان أحمد دحبور قادراً على حقن نصوصه السياسية والوطنية بأمصال البوح الحميمي الذي يغرف حرقته من أكثر ما في التراث ارتباطاً بالمأساة، قبل أن يتخذ شكل أمواج حارقة من الشجن المتواصل، «يا كربلاء تلمّسي وجهي بمائك تكشفي عطش القتيل/ وتريْ على جرح الجبين أمانة تمْلي خطاي/ وتريْ خطايْ/ قيل: الوصول إليك معجزةٌ/ وقيل: الأرض مغلقةٌ/ وقيلْ../ وذكرت أنك لي/ وأن الأرض تأكل من ثمارك ما عدايْ/ فأتيت يسبقني هوايْ». وإذا كانت قابلية النصوص للحفظ ليست بالضرورة معياراً لجودتها وتميزها، فهي بالمقابل ليست رديفة للتهافت والضحالة، وإلا ففي أي خانة يمكن أن نضع نصوصاً لامرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي، بل ونصوصاً موازية للسياب وأدونيس ودرويش وغيرهم، يحفظها الناس عن ظهر قلب، ويرون فيها تمثلاً رمزياً لوجدانهم الجمعي واختباراتهم الحياتية والوجودية. ودحبور من هذه الزاوية هو واحد من القلائل الذين لا نتقصد حفظ أشعارهم بل نجد أنفسنا محمولين في غير مناسبة وظرف على تكرار بعضها، كأن نردد في معرض الحديث عن وطأة الزمن «نشحن العمر ثلثاء ثلثاء ونلقي حطباً في الذاكره/ لتسير القاطره»، أو في معرض النقد الذاتي وإبعاد القضية الفلسطينية عن شبهتي القداسة والأسطرة «ونعرف أن للفرس الفلسطيني حصته من العاهات»، أو في معرض الاحتجاج على مساومات السلطة وتنازلاتها «صاحبي حاول ملكاً/ ناقصاً أو بين بينْ/ وأنا حاولت عكا/ فهزمنا مرتينْ». ستأخذ تجربة أحمد دحبور في ما بعد العديد من الأشكال والتحولات التي يُظهر فيها قدرات عالية على مستوى الدمج بين أساليب السرد والحوار والمسرحة والخروج من الصوت الغنائي الواحد لمصلحة الأصوات المتداخلة والبناء المركب، أو الإلحاح على التقفية الداخلية وترشيق القافية توسيع البحور والمزج في ما بينها. سينقطع الشاعر إلى قلقه وصمته، أو ستحرد شياطينه في الكثير من الأحيان، خصوصاً أن فلسطين التي عاد إليها وعاين مواجعها وتشظي جغرافيتها ومرارات أهلها كانت بعيدة كل البعد عن صورتها في مرايا الحنين وعن ظلها الفردوسي. على أن «حكاية الولد الفلسطيني» كما شعره سيظلان منجماً لإلهام الأجيال المقبلة بكل ما تحتاجه من كنوز.