أحمد راشد ثاني، شاعر متفرد يمتلك أدواته الشعرية، تقوده ملكته وفلسفته وثقافته إلى اتخاذ موقف من الوجود والأحوال، فحين يقول الشعر يقوله غريبا، مع إيقاع دفين، وموسيقى تنساب بتلقائية تحمل عمق المعاني ودفق الشعور، تأخذه خارج السرب، نحو مساحة من الحرية، والمبادهة والإنشاد. يكتب عن الخراب والعزلة والفاجعة، فهو لامنتم بامتياز، وهو الخارج من رحم الوجود، يصهر الأشياء ويعيد تركيبها من جديد، لهذا فإن تجربة أحمد راشد ثاني لا تنفصل عن التجربة الشعرية الإماراتية، ولا عن المنجز الشعري العربي، يضاف إليها سمة الشاعر، وخصوصية نظرته الحياتية والفلسفية في إطارها الثقافي، لهذا يأتي عمله الشعري قارئا للمكان وتحولاته، وانعكاس هذه التغيرات على الذات، والعلاقات. يمضي هذا الغريب في مجموعته بدفق شعري، من أجل أن يؤكد غربته، فتأتي القصيدة محمولة على صور تلقائية، مشغولة بموسيقى داخلية عميقة، كأن الشعر يقول نفسه، بمفاتيح الخيبة والغربة والتمرد على السائد، يقول: "أمسكت العالم وها يداي فارغتان". كتبت أغلب قصائد المجموعة على التفعيلة، لكنها لا تضع التفعيلة في اعتبارها، وإنما حسب الغنائية والتوثبات الشعرية، هناك قصيدة لافتة جدا، جديدة في نكهتها الشعرية، وفي صياغتها وإدهاشها "صارت تطاردك الكلاب". أحمد راشد ثاني محكوم ببعدين البعد الوجودي الحياتي، وخورفكان مدينته التي يحملها معه، مطلقا صرخة احتجاج، مطلقا شهادة احتجاج باتجاه تحولات امرىء النفط، فتأتي صوره الشعرية كأنها هبج في الهواء، وتلك تعزز غربته، فعلى غلاف المجموعة نلمح مقطعا شعريا يؤكد الخراب، الخراب القادم من انقيادنا إلى التأطير والمدن المرسومة "هبطت قوافلي وأنا الغريب". هذه الجملة الشعرية تؤكد على أن غربته غربة وجودية، يحملها معه منذ مجيئه إلى هذه المدن، يقول في مكان ما "أمسكت العالم وها يداي فارغتان، يمكن للقارىء هنا تذكر الشاعر الأندلسي "بايلون"، الذي مات منتحرا": أنا من العرق العربي الصديق القديم للشمس الذي عرف كل شيء ثم ضيعه". "صارت تطاردني الكلاب"، قصيدة الإدانة الموجعة، حملت على تفاصيل صغيرة، وتكرار تصعيدي يمضي بالقصيدة نحو أبعاد تراجيدية موجعة: " اركضْ ..ألا ما أثقل البحر الذي يأتي إليك ككلبة راوغت ذيلَ صغارها قل من أين جئت؟ أنا الغريب دخلت ليلا بلدتي فوجدتها وجهي وهل عرفتك؟ لا... صارت تطاردني الكلاب كما تطارد بعضها". تتصاعد القصيدة بمونولوج داخلي، محمول على لغة الجرح، إنه المكان الذي يطلق كلابه للمطاردة: "هيا اقترب منا اقترب يا من تطاردك الكلاب كما تطارد بعضها". أحمد راشد ثاني المسكون بالبحر، يكتب "المسكين هذا البحر"، متحسرا عليه: "مخمور أنا الميناء أسكرني وإني فاضح الميناء". يأخذه الشعر نحو القصيدة، وقصيدته هي فاطمة، التي تمثل زمن البراءة، فيتغنى باسمها، ودائما يرصد تبدلات المكان وانزياح هذه البراءة: "كسر القار ظهر الثرى كسر القار دخانها نخلها سرّها كسر القار بحر القرى برها كسر القار رحم القرى فمضى سيلها في الفضاء الترابي مستكشفا وحشة الأمنيات التي اسمها فاطمة". نسأل كيف كتب أحمد راشد ثاني قصيدته؟ وهو المسكون بالرائحة، واسم فاطمة، وخورفكان، أحمد الذي يرتدي البحر والشطآن وخورفكان، ورائحة أمه، والأزقة الترابية، يصرّ على التغريد شعرا، كأنه الطفل الذي يلوذ أبدا لصدر أمه، وحبيبته وطرقاته التي تسكنه" كأقراط الحنين"، لتنساب اللغة بشفافية، واغتراب أبيد، يقول: "سنكبر من طين قامتنا كي تمر ريحنا منحني كي يميد بنا خفقان فميل على نهد أنثى الخبل". يمضي في اغترابه نحو القصيدة مسورا بروح المكان المشبّع بثقافة الشاعر المتعددة المصادر، حتى يتحول المكان إلى أنا وآخر معا، يؤنسنه مقيما معه حوارات شعرية، تسلم فيه كل كلمة نفسها لأختها، فتدور عليها، وتتكىء ثم تنطلق لسواها، وربما تعود لأولها مكرورة، هذا الدوران يعيده إلى البحر والملح معا، شأنه في ذلك شأن "سان جون بيرس" المسكون بالبحر، والمكان هنا يحتوي على الزمن مكثفا: "خورفكان رفعوا ساقها يالعاري". نلحظ هنا أن الألفاظ على بساطتها، هي منصته نحو المكان، حيث تتوثب الروح بالحركة والركض والمراوغة، لتؤكد على أنا الشاعر: "عندما ولدت علقوا في أذني سورة المزمل يوم ترجف الجبال سأشم رائحة الورق". "جلوس الصباح على البحر" مجموعة شعرية، ضمت خمس قصائد، صارت تطاردك الكلاب، تحولات امرىء النفط، حيث الكل، رائحة الورق، خلج، منشورات اتحاد كتاب الشارقة.