لم يكن عبد المنعم تليمة (1937-2017) ناقداً تقنياً مشغولاً بحركة الإبداع في مصر والعالم فحسب، بل كان مثقفاً عضوياً، منفتحاً على أفق معرفي واسع. هو كان من آحاد النقاد الذين حازوا وعياً قادراً على الاستشراف والتخطي، ويدرك جدل السياسي والثقافي، ويعي ماهية المثقف ودوره في مجابهة تزييف الوعي من السلطتين السياسية والدينية. كان كذلك يدرك تلك الصلة الممتدة بين المشروعين النقدي والفكري؛ وبدا انحيازه صوب قيم التقدم من البدء وحتى الممات منحى أصيلاً في أدائه الثقافي من جهة، ورؤيته للعالم من جهة ثانية. من حقل المنهج الاجتماعي في النقد الأدبي خرج عبدالمنعم تليمة، الذي غيَّبه الموت أخيراً؛ فكان يرى النص الأدبي موصولاً بسياقاته السياسية والثقافية، مدركاً انشغال الكتابة بمحيطها الاجتماعي. غير أن الإضافة التي ميَّزته عن آخرين من أبناء جيله، تتمثل في وعيه المدهش بعلم الجمال الأدبي، هذا الذي منحه مؤلفه الأثير «مداخل إلى علم الجمال الأدبي»، فكانت عنايته الفائقة بالتأسيس النظري في كتاباته النقدية. في كتابه «مقدمة في نظرية الأدب»، يسعى تليمة صوب الوقوف على ماهية الظاهرة الأدبية وجوهرها العميق، عبر مسارين مركزيين: مصدر الأدب، وتطوراته، منطلقاً من التفسير الماركسي للأدب. هكذا جعل تليمة الأساس المادي/ الاقتصادي منطلقاً لتفسير العالم، وتلمس تجلياته النافذة في المسارات الثقافية والمعرفية، بحيث كان يرى أن الأدب يعكس علاقة نوعية بين الإنسان وعالمه. ولهذه العلاقة قوانينها الخاصة التي تميزها عن غيرها من العلاقات الفكرية والعلمية. ويرجع مصدر هذه العلاقات، وغيرها من وجوه النشاط الإنساني وظواهره كافة، إلى النشاط العملي للبشر. ذلك أن «العمل» المنتَج الذي يكون هدفه تحقيق غايات الإنسان هو الجوهر الأساسي لهذا الإنسان. لأن الإنسان كائن عامل، منتِج، وعمله الواعي الهادف هو حقيقته، وهو مصدر كل صور ثقافته، فنية وفكرية وتطبيقية وعلمية؛ فالفكر العلمي يحدد «الجوهر الإنساني»، أو «الطبيعة الإنسانية»، ومن ثم فهو يولي نظرية «الانعكاس» عناية كبيرة. وكان تليمة من أوائل النقاد العرب الذين انتبهوا إلى أن الانعكاس لا يسير وفق نمط آلي/ ميكانيكي، وأن الأدب لا ينقل الواقع نقلاً مرآوياً. وربما ساهم في تحرير النظرة النقدية والفكرية بعامة لدى تليمة، إدراكه العميق للصلة المنهجية بين الفلسفة والنقد الأدبي، ونزوعه المعرفي صوب استكشاف مناطق نظرية مهمة في علم الجمال الأدبي، انطلاقاً من أن الأدب فضلاً عن كونه حاجة اجتماعية، فإنه أيضاً وبالأساس حاجة جمالية. وتتعزز القدرة الفريدة للخطاب النقدي بوعيه بكلتي الحاجتين؛ الاجتماعية والجمالية، ومحاولة النفاذ عبرهما إلى جوهر النص الأدبي، وتلمس العصب العاري داخله. أفق الحكاية تنفتح سيرة عبدالمنعم تليمة على أفق ثري من الحكايات، لكن ما يعنينا هنا سيظل في صلته النبيلة بأستاذته سهير القلماوي، ومن ثم صلته بأستاذهما طه حسين، المفكر التنويري الأبرز في عصرنا الحديث. فقد رسَّخت هذه الصلة المعرفية والإنسانية إرث الرحابة الفكرية التي تمتع بها تليمة، والتي ساهمت في تحرير وعيه مبكراً، وانحيازه المستمر صوب الجديد. يتشكل كتابه «مداخل إلى علم الجمال الأدبي» من أربعة فصول، تؤسس لسياق من الوعي الجمالي النظري، الذي لم يتخلّ فيه عن تصوراته المادية الجدلية، مشيراً إلى ما سماه التعرف الجمالي، أي آليات التعامل الجمالي مع الواقع، والمعرفة الجمالية بطبيعتها النوعية التي تعد مدخلاً إلى الماهية، ثم العارف والمعروف الجماليين. ويعد كتاب الباحث تليمة؛ «طرائق العرب في كتابة السيرة الذاتية»، من الكتب النقدية المهمة في سياقه، لكنه لم يحظ بالحضور الفاعل الذي حظي به الكتابان المشار إليهما من قبل. شكَّلت رحلة الدكتور تليمة إلى اليابان حضوراً خاصاً في سيرته الذاتية من جهة، ووعيه بالعالم من جهة ثانية، وربما كانت مغايرة للرحلات المألوفة لمفكرينا. فالرحلة صوب المركز الأورو-أميركي كانت دوماً وجهة أصيلة لعشرات الباحثين والمفكرين، غير أن تليمة اختار أن يرتحل صوب مركز ثقافي مغاير للغاية. وربما يعبر كتابه اللافت «تخليص البيان في تلخيص اليابان»؛ عن تماسه الروحي والنفسي مع هذا المركز الجديد بتاريخه الممتد وحضارته الروحية والمادية. وربما أيضاً كان تليمة يرتحل إلى هناك واضعاً نصب عينيه التجربة اليابانية في النهوض، وإمكانية الاستفادة منها في الواقع المصري، ومن ثم صك عنوان كتابه على غرار الكتاب الأشهر لرفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وكأنه عودٌ على بدء، ولكن في زمن مختلف، ووفق مطيات سياق تاريخي مغاير، وتجربة نهوض جديدة. لو سألتَ أي مثقف مصري عن عبدالمنعم تليمة لوجدتَ لديه حكاية أو أكثر يرويها عنه. لقد كان رحباً بحق، عالماً ثبتاً، كنت أعده قيمة تاريخية وفكرية في حياتنا النقدية والثقافية المعاصرة، جمعتنا لقاءات شتى، سواء في مؤتمرات علمية أو ندوات نقدية لمناقشة أعمال إبداعية. غير أنني لن أنسى حديثه الضافي عن طه حسين في اللقاء الذي أقامته مؤسسة «روز اليوسف» في القاهرة. كنا ثلاثة أنا وهو وأستاذ التاريخ البارز الدكتور عاصم الدسوقي. بدا لي أن صلته بطه حسين أعمق من أن تحكى، وأنبل من أن تقال، فكان تليمة الامتداد الحقيقي لعميد التنوير المصري، وكان وسيظل ملهماً لي ولجيلي ولأجيال سبقتنا.