«الفنان لا يعكس الواقع أو المجتمع، ولكنه يعيد بناء واقع جديد مواز ولا ينقله». هكذا يرى الناقد الراحل عبد المنعم تليمة (1937 2017) أستاذ النقد الأدبي في جامعة القاهرة، الدور الذي يقوم به الفنان في الحياة، وماهية الفن، محاولاً بدوره تجاوز العديد من الإشكاليات والرؤى القاصرة التي تناولت مفهوم الفن والعمل الفني. ولا ينكر أحد مدى الإسهام الفكري والنقدي للرجل، ما بين البحث عن قواعد دقيقة مرجعها المادية التاريخية، لتنظير وتأصيل منهج للنقد الأدبي وعلم الجمال. وهو من ناحية أخرى لم يتوقف عند سجالات النقد العربي وحدها، بل أصبحت مؤلفاته بمثابة مُساهمة رصينة في مجال النقد وعلم الجمال بشكل عام. فالانضباط المنهجي ومحاولة خلق نظرية متماسكة، ومن خلال أدوات إجرائية أنجز الرجل مشروعه المغاير، الذي من خلاله أصبح صوتاً نقدياً وفكرياً من أكثر الأصوات تأثيراً في مصر والعالم العربي. وسنحاول استعراض بعض من ملامح السيرة الفكرية والسياسية للراحل من خلال مؤلفاته وبعض حواراته الصحافية. المراحل الفكرية من خلال اللقاءات والحوارات العديدة مع الناقد الراحل، تتكشف المراحل الفكرية المؤثرة في تكوينه ومنهجه النقدي، إذ يذكر أن أولى هذه المراحل بدأت بدراسة القرآن الكريم وتفاسيره المتعددة، ومنه إلى علوم اللغة العربية والموروثات الشعبية، وهي من أكثر المراحل تأثيراً، لأنها المؤسس الأول له في علوم القرآن والعلوم الدينية وعلوم اللغة. أما المرحلة الثانية فهي الدراسة الجامعية التي اتصل فيها مع التكوينات الثقافية والإبداعية اليونانية واللاتينية القديمتين والحضارات الحديثة، والعديد من مفكري ورواد ذلك العصر، على رأسهم طه حسين، الذي يعده تليمة الأب الروحي له. وفي الأخير تأتي مرحلة الاتصال بالإبداعات الشرقية المختلفة بعد سفره وعمله أستاذاً للأدب العربي في اليابان لمدة عشرة أعوام. كل هذه التجارب والخبرات والبحث جعلته أكثر تعمقاً ووعياً بنظريات الأدب وعلم الجمال، وجعلته صاحب رؤية مستقبلية لا تتوقف عند اللحظة الراهنة. التوجه الفكري هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى توجهات تليمة الفكرية منذ بداياته الأكاديمية، فجاءت أطروحته للماجستير بعنوان «الشعر السياسي في مصر من ثورة عرابي حتى ثورة 1919»، إذ يبدو البحث من خلال الوعي الاجتماعي والأدبي، وكيفية تشكيل هذا الوعي من خلال اللغة، المتمثلة في صيغتها العليا، وهو الشعر. ثم الانتقال إلى التعمق في المعنى الجمالي والنقدي، من خلال أطروحة الدكتوراه، المعنونة ب«نظرية الشعر في النقد العربي الحديث/ماهية الشعر ومهمته.. درس في النقد المقارن». ويبدو الوعي التحليلي واستنتاجاته المنضبطة، من خلال تحولات النقد العربي الحديث من الكلاسيكية إلى التعبيرية مروراً بالنقد الجديد والواقعية الاشتراكية وصولاً إلى النقد الاجتماعي الجمالي. من أهم الكتب المرجعية في مجال النظرية الأدبية والنقدية كتابا «مقدمة في نظرية الأدب» و«مداخل إلى علم الجمال الأدبي»، الذي كان لهما أكبر الأكثر على الفكر النقدي العربي، وتم تدريسهما في العديد من الجامعات العربية. ومن خلالهما أعاد تليمة النظر في علاقة الفن بالواقع، فبدلاً من أن تتأسس الصلة الجمالية بالواقع على مدار مفهوم (الانعكاس) يمكن أن تطرح هذه الصلة على مدار آخر هو «الموازاة الرمزية»، «فالفن موازاة رمزية للواقع. وينطلق تليمة في تحليلاته من منهج المادية التاريخية، التي يعدها الأساس المعرفي في العصر الحديث. فكانت مقارناته دائماً ما بين المنهجين الرئيسيين اللذين ينقسم إليهما البحث النظري فى تاريخ الفكر الإنساني، وهما المنهج المثالي، والمنهج المادي (العلمي). ومن هذا المنهج العلمي المنضبط يرى تليمة أنه لا توجد نظرية غربية أو شرقية أو غيرها، بل الأجدى هو تأسيس علم منضبط للفن يراعي ضوابط المنهج العلمي في النقد ومبادئ التشكيل الجمالي ويُطبّق على النصوص الأدبية، أي تأسيس علم للفن يشترك فيه الجميع، بغض النظر عن تطبيق نظريات ومحاولة تطويع النصوص، حسب هذه النظرية أو تلك. ويذكر قائلاً «إن العلماء والدارسين اليوم لديهم جملة من نتائج الدرس والنظر، صاروا يعتمدونها ويقيسون عليها ويصدرون عنها، فلا يمكن القول اليوم: نظرية نقدية أمريكية، أو هندية، أو عربية، فضوابط الدرس واحدة.. المنهج العلمي.. ومعايير الإبداع واحدة.. التشكيل الجمالي». هذا ما يستدعيه مفهوم التطور والنظرة المستقبلية للفنون، فالفن مرتبط بأربع لحظات فارقة، بما كان وما يكون وما سيكون وما ينبغي أن يكون، ولذلك الفن أكثر فلسفة من التاريخ. التحديث الثقافي وفي ما يخص الثقافة العربية ومأزقها الراهن يرى تليمة أن مشروع تحديث الثقافة والمجتمع ككل كاد أن يتوقف تحت ضغط السلطات الشمولية والبيروقراطية، التي تقف ضد التعددية الاجتماعية والفكرية وتحرم القوى الاجتماعية من التعبير عن نفسها، باستثناء الفئات المستفيدة. هذه الشمولية في ميدان الثقافة على وجه الخصوص تعتمد على الانتقائية فتنتخب من فكر الأمة ما يبرر مواقف بعينها، ومن هنا تغترب ذخائر تراثنا الثقافي تحت وطأة ثقافة منتقاة ومزيفة ومريضة عن الثورة والموقف السياسي وكما في المجال الأكاديمي والنقدي، كان لعبد المنعم تليمة مواقفه السياسية، التي طالته آثارها، ففي أحداث يناير/كانون الثاني عام 1977، تم اعتقاله لمدة أربعة أشهر ونصف الشهر مع أعداد كبيرة من المثقفين والمفكرين المصريين، كذلك الفصل من الجامعة. وفي عام 1986 تم اعتقاله وقت مشاركة مبارك المخلوع في المؤتمر الإسلامي في الكويت، حيث قام وزير الداخلية وقتها باعتقال مجموعة من التيار الثوري ليوصل رسالة مفادها أن مصر ضد الشيوعيين. وفي ما يخص ثورات الربيع العربي يرى تليمة في أحد حواراته الصحافية أنها .. صحوة جذرية غايتها محو آثار التخلف والاستبداد، وفي مقابل ذلك لا تجد قوى التخلف إلا اتخاذ الدين ستاراً لحماية نفسها والحفاظ على مكتسباتها. والأمل معقود على هزيمة هذه القوى. ولا طريق سوى المجتمع المدني والتعددية. وما يفعله الثوار والعلمانيون هو محاولات مستمرة للتعديل في الواقع، لكنهم واقعون تحت تأثير الاستبداد الداخلي والخارجي، ففي تاريخ العرب الحديث تعرض العرب لأشكال عدة من الاستعمار الخارجي، أما الاستبداد الداخلي فتمثل في عرقلة جهود إقامة المجتمع العصري من قبل الحكم القبلي أو العسكري أو البيروقراطي وغيرها. فاستمرار هذه المحاولات ينفي عن الثورة صفة الفشل. والثقافة في الأخير تعني أن يرنو الإنسان إلى ما هو متقدم وما هو أكثر عدلاً ونبلاً. عبد المنعم تليمة من مواليد عام 1937، تخرج في كلية الآداب في جامعة القاهرة/قسم اللغة العربية عام 1960، ثم الماجستير في الأدب العربي عام 1963، ودرجة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث عام 1966 كذلك حصل على ليسانس في الآداب الكلاسيكية اليونانية واللاتينية عام 1985، من جامعة عين شمس. شغل منصب رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة خلال الفترة من عام 1994 حتى 1997 المناصب.. عضو جمعية الدراسات الشرقية في طوكيو، عضو مؤسس لاتحاد كتاب مصر، عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية للأدب المقارن، عضو مؤسس للجمعية المصرية للدراسات اليونانية واللاتينية، عضو مؤسس وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للنقد الأدبي، وخبير في مجمع اللغة العربية. المؤلفات.. «مقدمة في نظرية الأدب» 1973، «مدخل إلى علم الجمال الأدبي» 1978، و»طرائق العرب في كتابة السيرة الذاتية» 1983. حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2004.