في سنوات التكوين الأولى البعيدة، يبدو أن غالب هلسا، الذي تصادف ذكرى ميلاده وذكرى رحيله في هذا الشهر، كان يدرك أن كل ما يملكه في ذلك الواقع الحياتي الصعب الذي يعيشه هو أحلامه، وكأن لا حياة له خارج هذه الأحلام، لا لشيء إلا لأن الحياة خارج الحلم كانت سلسلة طويلة من العذابات التي طحنت قلب غالب الطفل وظللت حياته حتى آخر يوم في حياته بغمامة سوداء لم تبددها كل الكتب التي كتبها فيما بعد. في التاسعة من عمره، وحين لم يكن يدرك بعد معنى الكتابة، راح غالب هلسا يدون أحلامه في دفتر خاص، وقد يتساءل المرء ما الذي يدفع طفلا في التاسعة من عمره نحو الأحلام التي يعيشها ليلا، ليكتبها نهارا مرة أخرى ويعيشها، غير أن هذه الأحلام كانت جوهرة حياته التي كان يخشى عليها من أن تضيع. يقول غالب هلسا في حوار معه: (كنت أصحو كل يوم فأكتب أحلامي، فأصبح عالم الحلم والفانتازيا جزءا من كتابتي.) ولد غالب هلسا في واحدة من قرى منطقة (ماعين) قرب مدينة (مأدبا) في الثامن عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر، عام 1932، وتوفي بعد سبعة وخمسين عاماً في اليوم ذاته من عام 1989 في مدينة دمشق، بعد حياة حافلة بالرحيل والمطاردة والمعارك الأدبية والفكرية معايشا الحياة بفاعلية بالغة في كل مدينة سكن فيها، وموزعا عمره على هذه المدن، بدءا من بيروت ثم مصر، العراق، وسوريا، وكانت نتيجة هذه المشاركة الفعالة أن ألقي به في السجن عديد المرات، وأبعد عديد المرات خارج الحدود، هو الذي أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاما من حياته، وكان دوره في الحياة الأدبية، وبخاصة لدى جيل الستينات، مؤثرا، ولعله كان أقرب ما يكون إلى دور جبرا إبراهيم جبرا في الحياة الثقافية العراقية. وحين تم إبعاده من مصر استقر في العراق التي ما لبث أن أُبعد منها ليستقر في بيروت، وحين رحل المقاتلون الفلسطينيون منها، رحل معهم على ظهر إحدى البواخر إلى عدن ومنها إلى إثيوبيا، ثم إلى برلين. ليستقر بعد سبع سنوات في دمشق حتى وفاته. إن المفارقة الكبرى في حياة غالب هلسا كانت قائمة باستمرار في هذه القوة الخارجية له كمثقف ثوري شجاع خاض معارك مواطنيه الأردنيين، وخاض معارك المصريين واللبنانيين والفلسطينيين، ولكن ثمة هزيمة لم يستطع تجاوز آثارها حتى آخر أيام حياته، وأعني بذلك هزيمته حينما كان طفلا، إذ عاش حياته وحيدا ومضطهدا، وهو يتحدث عن ذلك بشكل مفصل في أكثر من مناسبة. ولعلنا هنا نصل إلى النقطة الأهم في كتابة غالب هلسا، بل إلى السمة الغالبة على هذه الكتابة، والمتمثلة في أن غالب هلسا كان يكتب سيرة ذاتية متصلة موزعة على رواياته ونصوصه الأدبية، ويتفق على هذا الأمر كثير من النقاد العرب. وقد كانت هذه الكتابات تتحدى السلطتين القاهرتين اللتين وقفتا في طريق حياته بلا رحمة: السلطة الاجتماعية التي سحقته طفلا، والسلطة السياسية التي عملت كثيرا على أن تسحقه بعد ذلك سواء بظروف السجن (وقد كان أصغر السجناء الأردنيين، كما كان دائما أصغر الطلاب) أو الإبعاد أو الملاحقة التي كانت تضطره لأن يعيش مختفيا متخفيا، أو عدم السماح له بالعودة إلى الوطن. ولم يكن ثمة ما هو أكثر تحديا للسلطتين من أن يُخوّض غالب في أكثر الأمور الممنوعة، ونعني هنا: الجنس، السياسة والدين. وعندما قرر النشر أخيرا، كان غالب هلسا يخرج بالكتابة من زمن التحدي السرّي، إلى زمن التحدي العلني. وهكذا ظل الأمر إلى آخر يوم في حياته. إن قراءة ما كتبه غالب تجعلنا نصل إلى نتيجة مفادها أنه كان يحاول أن يرمم نفسه بالكتابة ويرمم الواقع بالكتابة، ولكن عذاب غالب الحقيقي كان قائما في إدراكه بأنه كان يدرك أنه (يرمّم) وأن الحقيقة غير ذلك، وأن أحلام اليقظة التي احتلت في الرواية مكان الأحلام في الطفولة، هي أحلام يقظة لا غير. وهكذا، ظل معذبا، داخل الكتابة بقدر ما هو معذب خارجها. ويمكن أن نستعيد حالته النفسية الصعبة التي عاشها وهو يكتب روايته الأخيرة (الروائيون) مستعيدا تجربة السجن المدمِّرة وسوء المعاملة الوحشية التي عاشها مع السجناء في مصر، يقول: (في آخر صفحتين توقفت عن الكتابة. علاج، أطباء أعصاب، إلى أن خطر لي أن الذي ينتحر ليس أنا.) ولكن المفارقة أنها كانت روايته الأخيرة. كان غالب هلسا يتفق مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس بأن (الواقع تزييف للحقيقة، والحقيقة هي باستمرار عكس الظاهري، فالفكرة عن القاضي هي أنه وقور ومحترم لكننا نراه في (قاع المدينة) ليوسف إدريس، مراهقا يتلصص على سيقان الخادمات وهن ينظفن البلاط، والسفَّاح يبكي لأن امرأته لا تحبه… الرواية تخرج الناس من فوضى الواقع وتضليله وتجعلهم يبصرون حقائق الأشياء). ليس ثمة مبرر هنا أن نسأل هل كانت الكتابة هي محاولة غالب لفضح الواقع من أجل الحقيقة؟ لأنها كانت كذلك فعلا، ولأنه يؤمن بهذا، فإن أول ما فعله أن يبدأ بنفسه، كاشفا حقيقتها، بعيدا عن صورته العامة التي كانت صورة واقعية تمثل غالب المثقف المناضل الشجاع، فقد ذهب غالب في كتابته لكي يكشف عن غالب الحقيقة، غالب الإنسان، وكأنه بذلك كان يصرّ على أن يصدم القارئ بأن يجعله في مواجهة الصورتين معا، أو الحقيقتين معا! إلا أنه وهو يلتجئ إلى أحلام اليقظة باستمرار كان يؤكد، بوعي أو بدون وعي، أن الحقيقة أيضا غير كافية لأن نعيش. ومن هنا تأتي فكرة التعويض، أو فكرة الترميم التي أشرنا إليها، فما حدث يكتبه، وما لم يحدث كما كان يشتهي يطوره ويجعله يحدث، وحين يستعصي الأمر يستعين بأحلام اليقظة. كان غالب هلسا المعذب بالحقيقة، يحاول أن يعوض عنها بشيء آخر هو حقيقة الحقيقة، وهي هنا الكتابة: ومن هنا يمكن أن نفهم قول إدوار الخراط: إن الكتابة عند غالب هلسا هي الحياة الحقيقية، بينما الحياة مجرد بروفة.