تضم المجموعة الشعرية “لمن العالم؟ وسير مشبوهة” للشاعر السوري منذر مصري، عددا من القصائد الطويلة جدا ترجع إلى تواريخ مختلفة كتبها في أواخر الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ولم ترد في أي عمل شعري سابق. في المجموعة نشعر كما لو أن منذر مصري أراد سداد دين له مع الحياة ومع الشعر تحديدا، فأصدر كتابه الشعري، مرددا في العنوان السؤال ذاته الذي طرحه عليه ابنه حين كان في السادسة من عمره وينظر إلى الطبيعة من نافذة القطار. تتميّز أغلب قصائد المجموعة، الصادرة عن دار نينوى، بالعفوية المتقنة التي يتصف بها شعر منذر مصري، وهو الذي يقول في مقدمة الكتاب “يستغرب كثيرون تصالحي الشديد مع شعري، وخاصة القديم منه الذي يتبدى بحرصي على ذكر تاريخ كل قصيدة، بالسنة والشهر واليوم وأحيانا بالساعة إذا تطلب الأمر”. منذر الذي أصدرت له وزارة الثقافة السورية ديوانه “داكن” عام 1989، وأتلفت 2000 نسخة منه جاهزة للتوزيع، ورفض اتحاد الكتاب العرب عضويته رغم استيفائه لكل الشروط، كانت الحادثتان، على حدّ تعبير مصري، فضيحة “بجلاجل، جلاجل لم يسمع رنينها أحد”. نفق للتأمل من يقرأ شعر منذر مصري تذهله تلك العفوية البسيطة وتحس أنه يتنفس شعرا، وكل عبارة يكتبها تفتح أمامنا نفقا للتأمل، وكل عنوان من عناوين قصائده يصلح أن يكون مادة للتحليل والدراسة، مثل “أحبك وأنا تراب”، عبارة مذهلة قالها منذر لابنه، تولد ينبوعا من الحب الأبوي لدى الأبناء، من يقدر أن يُبدع عبارة بتلك الفرادة وقوة التأثير، إلى درجة تشعر أن تلك العبارة تحولت إلى وشم في الذاكرة، وصار كل أب أو أم يتبناها ويشعر أنها تعبر عن قمة الحب للأبناء؟ يصف منذر علاقته مع القصيدة في قصيدة عنوانها “هي كطفل وأنا كأم” حيث يقول “أقبل هذه القصيدة/ كيفما وُهبت لي/ هي كطفل/ وأنا كأم/ كيفما انبثقت من بين/ فخذي روحي”. تأتي عناوين قصائد مصري أشبه بلوحات تأملية مثل “خُلقت لأكون خاطئا”، و”لا أريد أن أكون أفضل من أحد”، و”مات في وسط القصيدة”. كما تشعر وأنت تقرأ شعر منذر مصري وحتى نثره بنبض الحياة وكأنه يمتلك القدرة السحرية التي تمكنه من تحويل أي شيء، ليس فقط المشاعر والأفكار بل أيضا الخردة والمُخلفات وكل ما هو نافل ومُهمل ومُغفل عنه إلى شعر. يقول “يا لي من شاعر كئيب/ أبعث على الضجر/ أهذر عن أي شيء/ ولا أبالي ما هو/ ولمجرد تلطيخي وجهه/ بالسخام/ أحسب أنه سيصير/ في أعين الآخرين شعرا”، ويتابع “من يقل كل شيء/ لا يقول شيئا/ ثم تخلط كل شيء بكل شيء”. وفي قصيدته “آمال شاقة” يخطف أنفاسنا حين يصف اليأس بقوله “أشد ما أكرهه في اليأس سهولته”، عبارة تحفر في الروح وترتقي بالوعي إلى أعلى عتبات التأمل الذي هو قمة التفكير. ويعترف منذر بأنه مهووس بالكمال وبأن روعة الفن هو أنه وحده ما يجعل الكمال مُتاحا للبشر، ذلك أن روعة الفن الأشد هو أنه وحده ما يجعل من النقصان فضيلة. وهو لا يستبعد أن يكون هو ولا أحد غيره من قال “غالبا ما يدين الشعراء بشهرتهم لأسوأ قصائدهم”. ويُعبّر عن علاقته باللغة العربية بأنه خُلق ليُخطئ، وبأنه مهما بلغت درجة عقوقه لتلك اللغة فإنه لا يجد مفرا من الاعتراف بأنها أمه. القصائد كلها في ديوان “لمن العالم؟ وسير مشبوهة أخرى” هي قصائد كتبها في ما مضى، ما عدا قصيدة جديدة يعتبرها من أجمل قصائده هي خرمشات قط وعنوان القصيدة “سمها خرمشات قط”، وهي قصيدة مميزة اخترنا منها هذا المقطع “ولو بعد غياب طال ثلاثين سنة/ من حياة لم تجد لها هدفا/ سوى البحث عن هدف/ ولم تجد لها معنى/ سوى هذا الذي ليس له معنى/ إلى المدينة التي بحكم المُصادفة وُلدت/ ثم بحكم الضرورة عشت”. روح الدعابة لا تشبه لغة منذر الشعرية أي لغة، فهو نسيج وحده يقول في إحدى قصائده “هذا ما أسميه أنا شعرا/ دم لم تقبله الأرض/ وعرق ليس يقطر من الجبين فحسب/ بل من فروة الرأس وتحت الإبط/ وبين الفخذين/ وجلد ولحم وعظم/ فسمه أنت -ما- شئت”. منذر مصري يتنفس شعرا حتى حين يتكلم في أي موضوع تشعر أن كل كلماته معجونة بموهبته العالية المدهشة بعفويتها إلى درجة أن أبسط تفاصيل حياتنا اليومية تتحول إلى شعر، ويبث الحياة في قلم رصاص وممحاة، ومن يقرأ شعره ينتابه إحساس كأنه لا يتعب ولا يفكر في كتابة ما يكتبه، بل ثمة قصائد أشبه بالنكتة وروح الدعابة كتلك القصيدة التي كتبها عن أنفه! أثارت في الضحك ثم وجدتني أسيرة شاعر يخطف الأنفاس وعشقه الأبدي وولاءه المطلق للشعر. بل إنه يتعمد أن يوحي للقارئ أنه لا يتعب في كتابة قصائده. وهو الذي يقول عن شعره “قصائد طويلة كهذه/ تُقرأ بشعور من السأم/ تُقرأ على عجل/ تقرأ مرة واحدة/ ثم لا يعود إليها أحد”، لكننا هذه المرة لا نصدقه لأن قصائده متميزة وتنبض كنبض شريان الحياة.