حينما سأل المترجم أوليف كنيدي الأستاذ نجيب محفوظ عن مغزى عنوان روايته "أفراح القبة" قال إن أفراح العائلة الخديوية في القاهرة القديمة كانت في العادة متميزة بأهازيج وأغان ينشدها المنشدون في مواكب تطوف المدينة، وكان العامة يحفظونها ويرددونها فيما بينهم، وكانت تدعى بعدها "أفراح القبة". وكان هذا سبب إطلاقه هذا العنوان على روايته. ورواية "أفراح القبة" لنجيب محفوظ تتميز بالجفاف والقسوة. وهي مقسمة إلى أربعة أجزاء يقصها أربع شخصيات يتناوبون في سرد وقائع مسرحية كتبها واحد منهم، وهي تعبر عن قصصهم أيضًا في الواقع. وهنا يتلاعب محفوظ بالواقع المعاش والخيال المكتوب فوق صفحات المسرحية، فيتلاشى الفاصل بينهما، ويصارع القارئ العمل لإدراك ما بين الشخصية الحقيقية والخيالية في العمل. وهنا يذكرنا العمل بمسرحية لويجي بيرانديللو "ستة شخصيات تبحث عن مؤلف" الشهيرة، التي صدرت قبل رواية محفوظ بعدة عقود. وأرى أن نجيب محفوظ قد اقتبس فكرة عمله من المسرحية الشهيرة. ولكني لا أقول هذا على سبيل الانتقاص من قدر الرواية أو من نجيب محفوظ صاحب نوبل لأن هذا الاقتباس مكرر ومشروع على مدار التاريخ الأدبي؛ وتحضرني في هذا المجال روايتا صاحبَي نوبل: ماركيز "ذكريات عاهراتي الحزينات"، وكاواباكا "بيت الجميلات النائمات"، والتي نقل الأول في روايته عن الثاني الفكرة بحذافيرها. ورواية محفوظ أبطالها من نموذج "ضد البطل" أو البطل المحبط أو الشرير أو المهزوم إلخ.. وفيها يجدل محفوظ ضفيرة من شخصيات سلبية، ساقطة، تتصارع فوق خشبة المسرح، أو فوق شوارع وبيوت قاهرية ستينية. وهي مكتوبة بأسلوب جاف وصارم وحاد للغاية، لا تدفعك للتعاطف مع أي من الشخصيات. وهنا يأتي الحديث عن "أفراح القبة" الجديدة. هنا يخوض بنا محمد ياسين مخرج المسلسل الرمضاني الحديث العرض، في أجواء الأدب المحفوظي، ولكن من وجهة نظره هو. بالطبع ساعده على ذلك كتابة العمل ل "نشوى زايد"، فقدما معًا عملًا شديد الجمال والخصوصية، ذا إيقاع متميز، وصورة مبهرة، تلعب فيه الإضاءة، والملابس، والديكور، والموسيقى الرائعة لهشام نزيه أدوارًا وأدوارًا، في التلاعب بنا بين الحقيقة والخيال، وبين التمثيل على المسرح وبين حياة أبطال العمل. وأود أن أشيد هنا بما أضفاه المخرج المتميز محمد ياسين على العمل الأصلي في "أفراح القبة". الشخصيات القاسية المكتوبة فوق الورق، تجسدت فجأة أمام الشاشة واكتسبت بعدًا جديدًا، نعيش معها ونتعاطف مع ضعفاتها وسقوطها رغمًا عنا. وبالإضافة للأداء الرائع لكافة المشاركين في تلك المباراة التمثيلية الحامية الوطيس، فإن بصمة المخرج الواعي تطالعنا في كل مشهد، وكل حلقة من حلقات المسلسل. تتجلى لنا في فهم المخرج والممثلين للمغزى الذي قصده محفوظ عند كتابته لهذا العمل؛ الصراع بين الحقيقة وبين الخيال، فيأتي العمل مبهرًا بكل ما تعنيه الكلمة. وحتى لا ينتقص أحد من براعة المخرج محمد ياسين وكاتبته نشوى زايد بالقول بأن نجاح العمل يرجع للعالمي نجيب محفوظ، أقول بأن العديد من كتابات محفوظ قد تحولت بالفعل إلى أعمال تليفزيونية وسينمائية، ولكن لم تتميز كلها، بل تألق بعضها وفشل الآخر. لا يمكننا مثلا أن نقارن بين "بداية ونهاية" أو "القاهرة 30" لصلاح أبو سيف، أو "ثرثرة فوق النيل" لحسين كمال، أو الثلاثية لحسن الإمام، بأعمال أخرى، ربما لم يضف إليها المخرج رؤيته الخاصة فجاءت وكأنها تسجيل للعمل الأصلي وليست إبداعًا جديدًا. ومع ذلك فهذا العمل قد لا يلاقي النجاح الجماهيري لأعمال أخرى قدمها لنا رمضان هذا العام، لأنها أقل تكثيفًا وأيسر على المتفرج العادي في المتابعة. ولكني أتوقع لأفراح القبة لمحمد ياسين أن يبقى في ذاكرة الدراما التليفزيونية لأعوام وأعوام كواحد من أهم ما قدمته إلينا.